السياسة والسجون

”كل شيء له حظ من اسمه”أو كل “شيء يلوح في شيء” ؟/أحمد بابا ولد أحمد مسكة (رحمة الله عليه)

هل يحق لأي كان ان ” يدْخلْ بينْ ” د.حماه الله وإحدى مناطق وطنه؟ أليس الدكتور هو المؤرخ الكبير الخبير بتاريخ البلاد وسكانها وهو الوطني الغيور على أمجاد أوطانه ومصالحها مما يعنى الدفاع عن وحدتها الوطنية والاهتمام بجميع مكوناتها جنوبا وشمالا وشرقا وغربا؟ نعم، بدون شك … لكن ربما لم ينتبه الدكتور بما فيه الكفاية إلي مستوى الحساسية التي يخص بها مواطنونا الأماكن التي يعتبرونها مهدهم الخاص ويربطون بها سمعة ذويهم وكرامتهم بحيث ” يتْحمْجاو لها ” أكثر من اللازم؟ لا شك أن ذلك هو سبب ردود الفعل التي أثارها المقال الذى تعرض فيه الدكتور أخيرا لاسم نواذيبو، وسبب “الاحتجاجات ” التي وصلتنا ضد الإهانة المفترضة ل “أهل الساحل” وحتى ضد من لم يرد عليها ومن لم يدافع عن “كرامة أهله …”

رغم ذلك، ليس هذا “ردا” على مثقف نكن له الاحترام والإعجاب ولا نشك في حسن نيته، ولا دفاعا عن كرامة لا أظنها مهددة وليس النيل منها على كل حال بهذه السهولة
(رسا أصلها تحت الثرى وسمى بها إلى النجم فرع لا ينال طويل)؛ إنما هي فقط مشاركة في “دردشة” ينبغي أن تكون هادئة لتساعد على تجاوز التناقضات الغير مبررة ولا مجدية وعلى التعامل الإيجابي مع التعدد والتنوع والاختلاف في الأصول والأشكال والآراء والمنازل والمشارب و,,, المآكل، ليؤول كل ذلك إلي التكامل والإثراء بدلا من التحاسد والإقصاء.

أعترف فقط أني لم أفهم لما ذا خص الدكتور أهل نواذيبو (أو أهل الساحل إن كانوا فعلا معنيين) بغريزة الخضوع لكل الحاكمين. ورغم أن هذه الصفة تعتبر مذمومة أو محمودة حسب الظروف والآراء، إلا أنها تثير ملاحظات:

الأولى أن أهل الساحل قاوموا محاولات التسرب الأوروبي على شواطئهم منذ القرن الخامس عشر الميلادي وكانوا آخر من قاوم الغزو الفرنسي في القرن العشرين، تشهد على ذلك عشرات المعارك مثل أم التونسي ـ سنة 1932 ـ التي مات فيها عدد من جنود وضباط الغزاة من بينهم حفيد المارشال ـ الرئيس ماك ماهون واستشهد فيها عدد من المجاهدين من مختلف قبائل الساحل. و بعد نهاية الصراع المسلح الذي حسمته الأسلحة الفتاكة، فقد استمر الرفض و المقاومة الثقافية والروحية … حتى أن بعض القيادات التقليدية مثل محمد ولد عبد العزيز كان يرفض لقاء الحكام الفرنسيين ومجالستهم رغم سيطرتهم وتسلطهم.

الملاحظة الثانية هي أن مدينة نواذيبو اشتهرت أثناء العقود الأخيرة بكونها قلعة من قلاع المعارضة ونجح فيها منتخبون عرف بعضهم بصلابة مواقفهم الوطنية و(أحيانا) التقدمية.

ثالثا: اقتناعي بأننا جميعا ينبغي أن نتحاشى كل أنواع التمييز الغير إيجابي بين مختلف مناطق الوطن لأنه من ناحية لا يخدم الوحدة الوطنية، ومن جانب آخر ربما يكون سلاحا ذا حدين. أتذكر أن المعلقين الانتخابيين، منذ دخول السياسة أو ابَلتيكْ في البلاد ـ نهاية أربعينيات القرن العشرين ـ كانوا لما تاتي أكثرية النتائج وقبل أن يعطوا رأيهم في هوية الفائزين، كانوا كثيرا ما يقولون : “انتظروا حتى تاتي نتائج المقاطعة الفلانية” التي تكفي أحيانا وحدها لتغير النتيجة، فقد كانت منطقة “بعيدة” تصوت بشكل شبه إجماعي حسب رغبات الإدارة الاستعمارية قبل “الاستقلال” ورغبات السلطة “الوطنية” بعده، (والأولى أن نقول السلطة الشبه استعمارية لأن الإدارة الفرنسية لم تخلفها سلطة ذات طابع وطني واضح، تغذيه روح وقيم وثقافة وإرادة وطنية، فبقيت لا “مخ” لها إلا ما تبقى من الأسس المنهجية والثقافية والحضارية التي بنيت عليها الإدارة الأوروبية، حتى تلاشت هذه الأسس واندثرت بالخصوص آثارها المنهجية وعم فيها الفساد فبقيت جسما غريبا يكاد يكون لا علاقة له بما يطلق عليه اسم الإدارة في العالم المتحضر). عفوا إن كنت خرجت ـ وهل ابتعدت كثيرا؟ـ عن الموضوع، وانتابني نوع من آمرازة، ينال أحيانا “من ترك التكرار…” أو حيل بينه وبينه.

هل يعاب أهالي المقاطعة التي تحدثنا عنها بالخضوع لجميع السلطات و الخنوع إلى غير ذلك من النعوت الجارحة؟ لا أظن. علينا أولا أن نحاول الاطلاع على الأوضاع والحقائق وعندها ربما ينعكس الأمر ونرى أن سكان تلك المقاطعات “النائية” هم أطيب الناس وأكرمهم وأبعدهم عن الغش والفساد و”التمصلح” والتبتيبْ السياسي والأخلاقي الذي أصبح ـ مع الأسف ـ ثقافة سائدة مكان ما كان… هم فقط بريؤون لم يزالوا يعيشون في بواديهم السعيدة (نعم السعيدة رغم كل شيء) لا علاقة لهم بالنصارى ومن حل محلهم إلا بواسطة شيوخهم الذين بقوا طويلا مثلهم ثم تطوروا شيئا ما واحتفظوا عموما بموقف يتجنب مواجهة السلطة القائمة لأن التجارب علمتهم أن في ذلك مصلحة قومهم وأن أي سلوك آخر يتطلب … أشياء كثيرة ومعقدة لا تتوفر لديهم ولا قبل لهم بالتعامل معها. هذا الوضع في الحقيقة كان سائدا في أغلبية مناطق البلاد وخصوصا في الشرق والساحل؛ ولا شك ان بين الطرفين تشابها يصنفه البعض بالسذاجة وهو في رأيي أصالة قبل كل شيء ونقاء وصدق وكرم ولا يتنافى مع الذكاء والشجاعة ولا مع الطموح المشروع. بالطبع إن في التعميم دائما مخاطر: ليس كل أهل الشرق وأهل الساحل بدويون طيبون وكرماء وليس بالطبع باقي الناس فاسدين‘ ف”الناس كالناس”.

مرة أخرى لا داعي للتشكيك في حسن نية الزميل المحترم حماه الله، ولا شك أنه لم يكن يتوقع أن يثير ما كتبه حفيظة سكان ثلاث ولايات على الأقل. لم تكن هناك حدود واضحة ودائمة إلا أن التعريف المطرد هو أن الساحل يعنى ما وراء إمارتي الترارزة و آدرار من الشمال والشمال الغربي من البلاد، مع أن بعض القبائل مزدوجة لها مكانتها المعروفة في إحدى الإمارتين ولها في نفس الوقت مكانتها بين أهل الساحل، ومع أن الإمارتين لم تكونا دائما تعترفان بحدود بينهما وبين ذلك الجزء الأقصى من “المنكب البرزخي” الذي نظر له الشيخ محمد المامي في بعض كتاباته وخصوصا في قصيدة يتغني فيها بجمال الطبيعة ونبل طباع السكان ورفضهم للتبعية، مثل قوله “ولسنا بعروة طبل قرم آخذينا ” ومنها :

بلاد العامري لنا اصطفاها *** فبارك ربه فيـــها وفيـــــــــــنا

نزور بها مقابر دارســـــــات *** علي قدم العهود مخلدينـــــا

معادن حكــــمة وسداد رأي *** وأسرار بها متصرفينـــــا

لهم همم علت فوق الثريا*** بها شادوا لنا برجا مبينـــــا

هي الحسب المضيء لنا لو انـا *** علي الآثار منهم مقتدونـــــا

فنعمرهــــا مطرقة ولسنــــا *** بعروة طبل قرم آخذينــــا

نواســــــي كل طاغية أتانـــا *** ومسكين بعيد الأقربينــــا

ونكرم من أساء إذا اقتدرنــا *** ونعطي الحاسدين فيخجلونــا

ولو شئنا الظلامة لم تفتنـــا *** ولكن لن يكون لنا لدونــا

ألم تر أننا نفر قليــــــــل *** ونعدل إن وزنا الأكثرينــــــا

يقول أهل الساحل أنهم كثيرا ما يجدون في شعر أو اغْنَ الشيخ محمد المامي أشياء لم تكن معروفة في زمانه. من ذلك هذا الكاف :

الأرض أمن المعادن حطره *** لو كانت رات إدوارن

نتف زغبته ما تبره *** من طول اجرب فيه حارن

ثم نراه في هذه القصيدة يذكر المعادن والمقابر ويخلط بينهما معتبرا المقابر معادن … وكان من المقدر أن تحدث بعد زمانه بقرنين ظروف تختلط فيها المقابر والمعادن بشكل لم يكن منتظرا؛ ففي نهاية السنة الماضية شاعت في بعض قبائل الساحل أنباء مفادها أن القبور مهددة ب”النبش” لأن شركات المعادن تريد التخلص منها؛ ومن غريب الصدف أن أول قبر شاع أنه مهدد، ضريح خال الشيخ محمد المامي، محمد ولد محمود الذي كان أحد كبار زعماء عصره، ولم يكن جده بارك الله بعيدا عن المناطق “المهددة” وكذلك عدد كبير من أحفاد الشيخ وأجداده مثل يعقوب ابهنضام المعروف بالجامع لأنه جد جميع اليعقوبيين أي مختلف بطون إديقب الكثيرة وأهل بارك الله ولقبيلة إديقب مكانة كبيرة في الساحل وفي تاريخه، يشهد على ذلك شاعر تيرس العظيم امحمد ولد الطلبة. ولكن الشيخ محمد المامي لا يعني أجداده وأقاربه فقط حين يتحدث عن المقابر كمعادن حكمة فقد دفن في هذه الصحراء مترامية الآطراف والتي تكاد تكون كلها “حطره من المعادن” عدد كبيرمن أهل الخير والفضل والشجاعة والبركة‘ من أهل المنطقة أو ممن سكنوها أو “مروا بها” في فترات سابقة من تاريخها. أليس الشيخ محمد المامي ـ مثلا ـ هو من خاطب الشيخ سيد أحمد الكنتي بعد اكتشاف ضريحه :

يا امرابط فصك اتلقاتْ *** عند راصك من كل اشوار

جايه من نكجير اشتاتْ *** وجايه من سهوة كنار.. الخ

ومن المعروف أن الحاج سيد أحمد الدميس مدفون في جانب من هذه المنطقة، كما نجد أيضا فيها كروم وهو كذلك جد جامع لقبائل مهمة جدا أعني بطون البراكنه الموجودة الآن في تلك الولاية التي تحمل اسمها. ومن الغريب أن حفيده امحمد ولد عبد الله ولد كروم مدفون في مكان آخر من الساحل لم يكن معروفا بالتحديد حتى سنة 2011، لماعثر عليه بالصدفة أحد وجهاء إينشيري فبعث بالخبر إلى … من يعنيهم الأمر وسرعان ما جاء وفد يضم وجوها من جميع بطون البراكنة واستقبلوا عند ضريح جدهم قرب أكجوجت حيث رحبت بهم جماعة من أهل الساحل.

ربما انزعج أصدقاءنا هاؤلاء من التهديد المفترض بنبش القبور، ما دام اثنان علي الأقل من كبار أجدادهم النبلاء يتعرضون لنفس الخطر الذي كان يواجهه أجدادنا؛ لذلك فإني سعيد بأن أطمئنهم، فإن وفدا ممن “يهمهم الأمر” في الدرجة الأولي قد استطاع أن يطرح الأمر علي الرئيس محمد ولد عبد العزيز وقد أبدي رئيس الجمهورية تفهما تاما لما يكتسيه موضوع احترام المقدسات والقيم من أهمية روحية واجتماعية ووطنية، وقد ارتاح الوفد جدا لسرعة الرد وشموليته فقد أعطي الرئيس قبل نهاية المقابلة أوامر بأن “ما اتْلَ يمتسْ اقْبر” وان تتخذ إجراءات لحماية المقابر؛ وتكون بذلك قد حلت مشكلة تعني في الحقيقة جميع الموريتانيين. وقد اكد الرئيس هذا الموقف أثناء زيارته لنواذيبو، إثر سؤال طرحه أحد أحفاد … الشيخ محمد المامي (يظهر أنه لم يكن على علم بما حصل عليه الوفد المذكور قبيل الزيارة).

لا شك أن لكل مجموعة نصيبها من تاريخ المنطقة المشتركة كان لها النفوذ الأكبر فيها ولها روايات تتناقض وتتكامل حسب الحقب وحسب المصادر؛ تقول إحدى هذه الروايات أن بارك الله لما حج وزار قبر الرسول صلي الله عليه وسلم (وكان الحج آنذاك مغامرة كبرى وإنجازا عظيما) أنه لقي وليا من أولياء الله “مستترا” وأن ذلك الولي تنبأ له بمستقبل قبيلته ونصحه بالمقام في هذه المنطقة، حسب ماترويه أغنية شعبية يكررها الأهالي علي مر الأجيال (منذ عهد محمد عبد الله ولد البخاري ولد الفلالي):

كاف بعيال لول فات *** المك وكتن لحك اتوات

مرضت لم أفم اتوفات *** أحج أجاه أولي مستتر

واعطاه ال بين النخلات *** وارجع لبلاد متفخر

واللا ذو نحن هون احذاك ** ياعزري لعواتك واياك *** انرتع فارض اوليك الطاك…

(أم لعواتك عقلة في منتصف الطريق بين نواذيبو ونواكشوط عندها ضريح بارك الله). وتعنى عبارة “بين النخلات” حسب تلك الرواية الأراضي الموجودة بين واد نون واندر، دون أن تشمل آدرار والترارزة لكنها تضم طبعا المناطق التي أصبحت بعد ذلك بقرون مستعمرة إسبانية. من اللافت للنظر أن الولي المذكور في الرواية هوـ حسب بعض المصادرـ الحاج سيد أحمد ادميس، جد غالبية أولاد أبي السباع، إحدى أهم قبائل الساحل؛ مما يؤكد أن السلطة في هذه المنطقةالتى لم تكن تخضع لحكم دولة مركزية كانت تنتج عن تحالفات بين مختلف المجموعات الرئيسية فيها. ولا تعني الرواية طبعا أن المنطقة كانت ملكا لولي يمكنه تقديمها هدية لولي آخر ولا لقبيلة أو قبيلتين دون غيرهما فقد كانت هناك مجموعات عدة (سياتي ذكرها) تتعايش وتتحالف وأحيانا يتحارب بعضها ولكل دوره من التفوق مدة من الزمن قبل أن تدور الدائرة وهكذا دواليك… لم تكن إذا عبارة “العطاء” هنا تكتسي معني الملكية والسيطرة الإحتكارية بل كان لها مغزى رمزي لا يتنافى مع التعدد والشراكة بين جهات يستغل كل منها خيرات الأرض ومراتعها ومشاربها، خصوصا وان الولي العائد من الحج وأحفاده تخصصوا في حفر الآبارلصالح الجميع في أراض كان انتجاع الكثير من مراعيها شبه مستحيل لقلة الماء، فاستطاعوا حفر العشرات منها بين تاتيلت جنوبا وبير انزران شمالا؛ يقول أحد قادتهم في القرن لثامن عشر: يا دار انزلناك غبطة فيك اكرينا البيان أفيك احيينا المعطه وابيار انزران.

وليس من الغريب أن يكون أول من تصدى “للدفاع” عن نواذيبو ـ إثر نشر مقال د.حماه الله ـ أحد مثقفي قبيلة من أهم مجموعات الساحل وأقدمها ليس فقط في هذه الربوع ولكن في التاريخ العربي (حتى ولو لم تكن هنالك صلة بين دليمنا هنا وبين الديلم الذين جاء ذكر “حياضهم” في شعر عنترة بن شداد)؛ أعني قبيلة أولاد دليم التي كان لها دور أساسي في مقاومة الغزو الاستعماري الأوروبي…، كما وصلتنا احتجاجات من بعض من ينتمون إلى مجموعة أخرى من الوزن الثقيل في الساحل (الرقيبات وهم كذلك من قاوموا الاستعمار الفرنسي حتى النهاية قبل أن يواجهوا الاستعمار الإسباني مع غيرهم من سكان المنطقة). هنالك مجموعات أخرى ساهمت إما في الدفاع عن الحوزة الترابية وإما في الإشعاع الروحي والثقافي للبلد وأحيانا فيهما معا. نذكر منها (انطلاقا من إينشيري أي القبائل التي كانت “مسجلة” في أكجوجت قبل “الاستقلال”، وليس الترتيب مبنى علي أهمية القبائل فلا يعني بالضرورة ذكر قبيلة قبل أخرى “تفضيلها” عليها … ولا العكس طبعا): أهل محمد سالم، أولاد اللب، أولاد أبي السباع، أهل ألفغ الخطاط، أهل الحاج، أهل بارك الله، أولاد ألفغ حيبل، إيمراكن؛ ثم نواذيبو وما وراءها : أولاد دليم، أهل بارك الله، القرع، أولاد أبي السباع، تكنه، لعروصيين، أولاد اللب، الرقيبات الصكارنة، أهل الشيخ ملعينين، بعض تندغة كأهل بوحبينى واهل سيد المصطف، لعويسيات، إيمراكن …؛ ثم تيرس و زمور وما وراءهما : الرقيبات، تكنه، الزركيين، أولاد تيدرارين، أهل بارك الله، أولاد بسباع…

هذا وإن للمدن في الساحل الآن “هوية” خاصة لأن هذه المدن لم تكن موجودة قبل الإستعمارـ القديم والجديد ـ وشارك في تأسيسها مواطنون قادمون من ولايات أخري خصوصا أهل آدرار الذين كان لهم فضل السبق بمختلف قبائلهم شمس الدين، أولاد عمنى، إدوعل، لغلال، إديشل، أولاد آكشار، أولاد غيلان، إدولحاج، كنته، لشياخ، أهل سيد أحمد…الخ ثم لما أصبحت مدن الساحل مراكز معدنية وصناعية، توافدت عليها اليد العاملة واليد التاجرة وجميع الأيدي و الأيادي الفاعلة ل … كل ما لم يكن يتصوره بدو تيرس وتازيازت وزموروإينشيري… فأصبحت كل من نواذيبو وأكجوجت والزويرات عبارة عن موريتانيا مصغرة بكل قبائلها و أثنياتها. بقيت “خصوصية” واحدة أو فارق واحد بين أهل الساحل القديمين وبين سكان المدن الحديثة القادمين من الحوظ، الترارزة، آدرار، سيلبابي، العصابة، كيهيدي، تكانت، لبراكنة… الخ، هو أن هؤلاء الأخيرين يعتبرون أنهم من مواطني المدينة التي يعيشون فيها ، لكنهم لا يعتبرون أنفسهم من أهل الساحل. هل يدوم هذا الفرق … بعد تتابع عدة أجيال؟ مهما يكن فقد ساهمت هذه المدن في التقارب والتعارف بين مختلف مكونات الوطن واختلطت الفئات والشرائح والقبائل بشكل يعزز الوحدة الوطنية ويساهم في تجاوز الفوارق الاجتماعية والطبقية.

ملاحظات متفرقة :

- من الأشياء التي تأثر لها كثيرا بعض “المحتجين”، ما اعتبروه تشكيكا في كرمهم، رغم ما عرف عنهم وما قيل فيهم مثل :

” لما رأي الله أن المال عندكم *** تجارة لاكتساب المجد والكرم

أولاكموه على مقدار فضلكم *** فكان أوفر مقدارا من النعم

من البرامك حسبي وابن زائدة *** ومن أبي دلف أنتم ومن هرم … ”

ومئات القصائد من هذا النوع شعرا فصيحا و”ملحونا”.

- تقدم أحد المحتجين بسؤال لا شك أنه يظنه محرجا: “الدكتور المحترم بلغنا أنه من أهل الحوظ، فما عساه يقول لو أن أحدا “ياسرة أخباره” قال أن سكان منطقة “أعيون العتروس” أصلهم اعتاريسْ وأن فيهم “عترسة” في الطباع لها تأثيرات اجتماعية غريبة…إلخ، مع كل ما يمكن أن يلفقه الخيال إذا ترك له الحبل على الغارب … وفعلا أضاف معلق آخر أسطورة مفادها أن في الحوظ منطقة أخرى نساءها فائقات الجمال و رجالها كلاب، وأكد أن الأمر لا مراء فيه حسب ما أورده الرحالة الفلاني … أجبت أني لا أدري ما ذا يحتمل أن يجيب الزميل المحترم إذا فرضنا أنه يرد علي مثل هذه الأساطير، لكني لا أرى ضرورة في طرحها. فأما أسطورة الرجال ـ الكلاب فأصلها أن مسافرا غريبا على تلك المنطقة زار حيا من النمادي في فترة القيمارة و من المعروف أن رجالهم يذهبون لحملة الصيد ويتركون بعض النساء و معهن بعض الكلاب المعاقين بجراح أو مرض يتولين علاجها و يلاحظ الزائر الغريب أن في معاملة النساء للكلاب عناية كبيرة واهتماما زائدا وحنانا بعيدا جدا عن ما هو مألوف في مجتمعنا، والسبب أن الكلاب عند النمادي رفاق معركة دورهم حيوي للصياد وهم أيضا ثروته النفيسة والتي لا تعوض. صحيح أن في نسائهم الجمال، لكن لا نقص في رجولتهم، قوة وشجاعة وكرما؛ هناك دراسات أنتروبولوجية عن النمادي لمن يهمه أمرهم وقد صدر أخيرا كتاب طريف تحت عنوان: LA FILLE DU CHASSEUR “بنت الصياد”، تقص فيه مريم بنت الطويلب حياتها بالتعاون مع الباحثة صوفي كاراتيني.
- أما مدينة العيون، فإن لي معها قصة قديمة طويلة تشهد بأن من رماها ب”العترسة” ظلمها ظلما صارخا؛ لقد جذبتني من أول يوم بجمال طبيعتها وطباع أهلها و”خفة هواهم” وتفانيهم في إكرام الضيف فلا أرى كيف ل”العترسة” أن تجد مأوى بين رجالهم أحرى قرب نساء عرفن بالجمال والأناقة واللباقة و… حسن السلوك الأسري شهادة ممن كان “رب أسرة”عندهم. هذا وربما كان بعض الشعراء مرهفي الذوق والحس يشعرون بعدم الملاءمة بين الاسم والمسمى فيبحثون عن بديل كما فعل أحد كبار مثقفيها حين قال :

“عيون التيس إنسان العيون *** بها ما شئت من كل الفنون

فلا أبقي الإله بجاه طه *** بها مرضا سوى مرض العيون”؛

وقد تجنبت بدوري استعمال التسمية الرسمية (اعيون العتروس) لصالح اسم قليل الاستعمال فبدأ الكاف بهذه التافلويت : ” امن اعيون المكفه متكنت … الخ ”

أضيف أني في الحقيقة كنت مهيئا لأنظر إلى العيون بعين الرضا، فقد كان لي منذ عهد الصبا زميل دراسة من أبناء العيون كثيرا ما حدثني عن تلك الأرض الجميلة التي بها “نيطت عليه تمائمه”، عن الحوظ وأهله، عن العيون طبعا وعن تنبدغة حيث كان من أول من دخل “مدرسة النصارى”، وعن خاي … وأصبح صاحب أهل الشرق هذا من أقدم وأعز أصدقائي؛ ولم أعرف في حياتي ـ الطويلة ولله الحمد ـ وأسفاري المتعددة عبر العالم وتجاربي المتنوعة، لم أعرف من يفوقه في الوفاء والصدق والإخلاص للأصدقاء في الشدة والرخاء، ولم أجد إطلاقا من يشبهه في التواضع .

ربما يكون في هذه الصداقة المثالية التي نشأت تلقائيا وتوطدت بين شابين بدويين قادمين من أقصي الشمال ومن أقصي الشرق، تأكيد ل”التشابه” الذي أشرنا إليه بين أهل الشرق وأهل الساحل (على الأقل بين أهل البوادي منهم)، وطبعا تأكيد أيضا لما لا يحتاج إلي تأكيد من تجليات الوحدة الوطنية. كانت هي الأولى ولم تكن الأخيرة فقد نشأت صداقات أخرى متعددة وصل بعضها إلى أعلي مستوي من الثقة والإعجاب. وأغرب من ذلك أنه قد كان لأهل الشرق في حياتي دور هام ومبكر جدا لأن أحدهم هوالذي علمني القرآن، فقد كانت جدتي التي ربتني المرحومة سكينة تبحث عن رجل “حافظ وامجود” ومستعد ليسكن معنا ويتفرغ لتعليمي طول الوقت، وكان المرحوم سيد محمد ولد أحمد شابا من تنواجيو “تلميدي غربة” كما كان أهل شنقيطي يسمون طلبة العلم القادمين من مناطق بعيدة يوفرون لهم السكن والأكل والتعليم طبعا مجانا؛ كان شابا نشأ في طاعة الله طيبا ورعا له إلمام بعلوم القرآن فأقام معنا حتي أكمل “مهمته” تجاهي ودرس عليه أحد أخوالي “رسم الطالب عبد الله”…وكان من المقدر له أن يستقر نهائيا بعيدا عن مسقط رأسه فقد تزوج داخل أسرة جدي ثم تنقل نحو الشمال وأصبح صاحب كتاب لتعليم القرآن في احياء الرقيبات حتي وافاه الأجل المحتوم، رحمه الله تعلى رحمة واسعة.

مقالات ذات صلة

إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: