أخبار العالمأخبار وطنيةزعماء وقادة

تعرف على لغة الضاد صدفة فأصبح سفير الحضارة العربية الإسلامية في الغرب.. رحيل المستعرب الفرنسي أندريه ميكيل عن 93 عاما

باريس- منذ ولادته في ريف ميز في الجنوب الفرنسي عام 1929، يمّم وجهه صوب جنوب المتوسط، وحلم برؤية أشجار النخيل التي تتراءى له خيالاتها من وراء أفق ضفة الشمال، وتاقت روحه لمعانقة الشرق الجميل واكتشاف أسرار ثقافته وحضارته العريقة.

تعرف على لغة الضاد صدفة في أربعينيات القرن الماضي، فتبحّر فيها وصار متيّما بها ومدافعا عنها ورافعا رايتها في كل الأمصار والأفاق، حتى أصبح في الأخير سفير الحضارة العربية الإسلامية في الغرب. هو موسوعة و”مكتبة عربية متنقلة” يتواشج فيها الشرق والغرب، إنه “المستعرب الذي اعتنق الإسلام حضاريا” كما كان يقول عن نفسه.

ومنذ قرأ الفرقان واطلع على عمق آياته وحكمة تجلياته، صار سجين نوره الخفي إلى الأبد، ومنذ ترجم شعر “مجنون ليلى” قيس بن الملوح واكتشف قصته، أصبح متيّما بالشعر العربي الكلاسيكي، ومجنونا جديدا باللغة والثقافة والحضارة العربية، ومنذ نقل إلى الفرنسية عيون الأدب العربي مثل “كليلة ودمنة” و”ألف ليلة وليلة” سقط صريعا في عينيّ شهرزاد وحبها، وجرفه تيار ابن بطوطة ورحلاته العجائبية وسافر معه الى أقاصي الشرق وتاه بإرادته عن مرساه الفرنسي الأوروبي، ليستقر بكتاباته دون بوصلة ودون رجعة في الصحراء والحواضر العربية ويتلبس بالشخصيات الغرائبية في الشعر الجاهلي وقصص ابن المقفع والمعري.

هذا هو المؤرخ والمستعرب الفرنسي أندريه ميكيل (1929-2022) الذي رحل عن عالمنا الأسبوع الماضي عن عمر 93 عاما.

حب من أول نظرة
ولد ميكيل بإقليم هيرولت في الجنوب الفرنسي، يوم 26 سبتمبر/أيلول 1929. وبدأ شغفه بالعالم العربي عام 1946 إثر رحلة قام بها إلى شمال أفريقيا التحق بعدها بمدرسة المعلمين العليا في باريس، ودرس الأدب العربي على يد المستشرق الشهير ريجيس بلاشير، وحصل على التبريز في النحو، ثم الدكتوراه في الآداب، وتخصص في الأدب واللغة العربيين الكلاسيكيين.

ومنذ بداية استخدامه قاموس لغة الضاد وقربه من خيمة الثقافة العربية، وقع في حبها من أول نظرة، وفتن بها وبأدبها وأشعارها وقصصها العجائبية، فسافر يطلب ودها ويدها والتعمق فيها إلى دمشق وبيروت والقاهرة، ناصبا أوتاده ودارسا اللغة العربية من جديد مما زاد من تعلقه بها.

ولاحقا ترجم هذا الحب الكبير للغة الضاد، ببحوثه وكتبه وترجماته الكثيرة للأدب والفكر والتاريخ والثقافة العربية، إلى الفرنسية.

يستذكر ميكيل الصدفة المبرمجة من القدر التي قادته الى عشق اللغة والثقافة العربية واكتشاف الضفة الأخرى من المتوسط، في أحد حواراته قائلا “بالمصادفة من خلال تذوق الغرائبي. طفل في (لانغدوك) هذا الإقليم المطل على البحر (جنوب فرنسا) الذي يدعو إلى النظر إلى الضفة الأخرى، كنت أحلم بزيارة هذه البلاد لرؤية أشجار النخيل والمنارات

ثم تأتي النقطة الفاصلة في حياته، المتمثلة في الرحلة المدرسية المنظمة -التي أخذته وزملاءه الناجحين في الامتحان العام للجغرافيا عام 1946- إلى مدينة أجاكسيو في جزيرة كورسيكا، ثم تونس والجزائر، فالرباط ومراكش. فكان الحب من النظرة الأولى لهذا الطفل الحالم، وهو ما يؤكده لاحقا في أحد حواراته قائلا “بالنسبة لي، كانت تجلياً مزدوجاً: أرحل إلى بلاد حلمت بها وأقع عاشقاً بجنون لطالبة سأخطبها بعد سنوات، بعد مراسلات طويلة ومقابلات”.

وبعد هذه الرحلة المغاربية الروحية الصوفية، عكف ميكيل على دراسة القرآن وتفاسيره باللغة الفرنسية، مما أثّر ذلك كثيرا على مساره الأكاديمي والبحثي وتعلقه بلغة الضاد في فترة لاحقة، كما يعترف هو في أحد حواراته.

ومتتبعا حلمه وشغفه بالعربية أقام ميكيل عاما في سوريا، كمبعوث للمعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق، وعاماً آخر كسكرتير عام للبعثة الثقافية والأركيولوجية بإثيوبيا، وأخذته عصا الترحال أيضا لبيروت التي درس فيها العربية لمدة عام ، ثم مصر عام 1961 حيث كان من المفروض أن يقوم بتقديم أطروحة دكتوراه عن “الأدب والسينما في مصر المعاصرة” ولكن القدر كان يخبئ له مفاجأة جديدة، حيث اتهم بالتجسس لصالح الغرب، مطلع الخمسينيات التي كانت في بدايتها، وأودع السجن بين خريف 1961 وربيع 1962.

ولكن هذه التجربة السجنية، على قساوتها، لم تزعزع حبه وتعلقه باللغة والثقافة العربية، بل زادته إصرارا على الإبحار والتعمق فيها أكثر بما كان له من وقت فراغ خلف القضبان، ولاحقا ترجم هذه التجربة في يومياته الأدبية “وجبة المساء: يوميات دبلوماسي فرنسي في سجن مصري”.

مجنون لغة الضاد
هو الباحث والشاعر والمترجم والمبدع والأكاديمي والأستاذ الفرنسي والمستعرب الذي تبحّر في اللغة العربية، وكرّس حياته لخدمتها والدفاع عنها وأبحاثه للغوص في أعماقها وصيد جواهرها، وخاصة في ترجمة عيون الشعر العربي الكلاسيكي الذي تخصص فيه إلى لغة فولتير.

وبعد أن استكمل كل مراحل تعلم العربية وتعمق فيها حد نيل شهادة التبريز، أصبح ميكيل أستاذا مختصا في الحضارة العربية بالجامعات الفرنسية بداية من عام 1968، وشغل منصب مدير معهد لغات الهند والشرق وشمال أفريقيا وحضاراتها في جامعة باريس الثالثة.

وبداية من العام 1975 درّس اللغة والأدب العربي في كوليج دو فرانس (Collège de France) الذي تدرس فيه النخبة الفرنسية والعالمية، ودرس فيه مثقفون وكتاب عرب بارزون مثل طه حسين ومحمود المسعدي، ثم أصبح بعد ذلك مديره العام، قبل أن يشغل منصب مدير المكتبة الوطنية الفرنسية منذ العام 1984.

هذه المسؤوليات المتتالية لم تمنعه ​​من مضاعفة المشاريع الأدبية الكبرى، حيث افتتحت ترجمته الرائعة لكتاب “كليلة ودمنة” لابن المقفع عام 1957، سلسلة من 80 عملاً من عيون الأدب العربي مترجمة بنفس البراعة والدقة الأكاديمية، توجها بترجمة ضخمة لقصة “ألف ليلة وليلة” في 3 مجلدات.

كما ألف في فترة لاحقة عدة كتب مرجعية عن الجغرافيا البشرية العربية والإسلام، نذكر منها “الجغرافيا البشريّة للعالَم الإسلامي”، “العالم والبلدان.. دراسات في الجغرافية البشرية عند العرب”، “الأدب العربي” وغيرها، دون أن ننسى طبعا نصوصا أخرى كلاسيكية مثل “من صحراء شبه الجزيرة العربية إلى إسبانيا، مختارات شعرية”، “قصائد الحياة والموت لأبي العتاهية”. وتجاوزت مؤلفات ميكيل 250 كتابا خلال مسيرته المعرفية الطويلة.

وقد تحدث رئيس معهد العالم العربي جاك لانغ بتأثر واضح عن صديقه القديم ميكيل، وأكد أنه كان أحد الرموز الكبار للأدب والثقافة العربية، وقد أحب العربية وتعلق بها لدرجة أنه كتب بها الشعر وعبر بها عن أحاسيسه الفياضة، وهذه ترجمة حقيقية للمرتبة المتقدمة التي احتلتها لغة الضاد في قلبه ووجدانه.

وأضاف لانغ قائلا للجزيرة نت “موت ميكيل يعتبر خسارة كبيرة للثقافة العربية باعتباره مستعربا كبيرا أحب هذه الثقافة واشتغل على أدبها وعرف بها في الأوساط الفرنسية والغربية. لذلك فإضافاته للثقافة العربية كبيرة وقيمته وبصمته لا تمحى، هذا لا شك فيه. هو بمثابة سفير حقيقي للثقافة والحضارة العربية في الغرب”

في حين قال الرئيس ماكرون إثر وفاة ميكيل “أحيي فيه رحلة المبدع الحرفي، والإنسان المنفتح الحواري الذي كان أكثر أهل الشرق غربا، وأكثر أهل الغرب شرقا، والذي عرف جمال الثقافة العربية وأحبها”.

وقد جمعت ميكيل علاقة خاصة بالشعر الكلاسيكي، وخاصة شعر قيس بن الملوح المعروف بمجنون ليلى، الذي انبهر بتجربته وترجم قصائده وقصته في أكثر من كتاب، وهو ما جعل مدير معهد العالم العربي وطالبه السابق معجب الزهراني يقول عنه في حفل تكريمه الذي أقامه المعهد عام 2018 “لقد جمعت ميكيل قصة حب وعشق للثقافة العربية وآدابها ولتراثنا الأدبي والفكري، وهو بهذا التعلق قد أصبح أشهر وأحدث مجانين ليلى”.
جسر الشرق والغرب
وفي ظل علاقة العشق هذه، كانت نظرته للأدب العربي دائما عاطفية أفقية تلقائية تفاعلية، تبتعد عن النظرة الاستعلائية الكولونيالية للمستشرقين الأوائل، وقد كانت هذه النظرة والعلاقة التواشجية عن وعي، مما جعله يصرّح به في أحد لقاءاته قائلا “أنا مستعرب، ولست مستشرقًا، وقد اعتنقت الإسلام حضاريًا”.

لقد أغنت بحوث ميكيل العميقة وكتاباته الأصيلة الثقافة العربية، وساهمت في تقريب وإثراء الحوار بين ضفتي المتوسط منذ أكثر من نصف قرن. ولأنه خدم الثقافة العربية بحب وتفان وعطاء لا نظير، فقد خصص كل وقته للتأليف والبحث، وأغنى المكتبة العربية والغربية بترجمات وكتب مهمة، نذكر منها “قصصُ الحبِ في الأدبِ العربي” و “الحبُ عند العرب” وترجم “ألف ليلة وليلة” و”كليلة ودمنة” وغيرها من روائعِ الأدبِ العربي.

وهو ما شدد عليه أيضا لانغ، الذي اعتبر ميكيل جسرا معرفيا وثقافيا وحضاريا حقيقيا وصل الشرق بالغرب، والغرب بالشرق، وقد مثل بذكائه الوقاد واجتهاده وانفتاحه وإنسانيته الكبيرة، حسب تعبيره، الوجه المضيء للثقافة العربية في الغرب. لذلك فوفاته تعتبر خسارة كبيرة لكلتا الثقافتين العربية والغربية.

وقد بقي ميكيل وفيا حتى آخر رمق في حياته لحبه الأول الشرق بكل سحره وألقه، الذي ولد منه عشقه الأول لغة الضاد التي كتب بها أغلب بحوثه ومؤلفاته، وكانت مجموعته الشعرية “قصائد متبادلة” التي أصدرها عام 2020 وهو في سن 91 عاما، خير دليل على علاقة العشق النادرة الفريدة هذه، حيث كتبها بلغة المتنبي أولا ثم ترجمها إلى الفرنسية. وميكيل في الحقيقة يقر، بل يفتخر بذلك، تصريحا وليس تلميحا حيث قال ذات حوار “ستبقى العربية عشيقتي التي لا يمكن أن أخونها حتى لو أردتُ أو حاولت”.

المصدر : الجزيرة

مقالات ذات صلة

إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: