تغريدات

الروائي بيروك.. وسرديات الصحراء الكبرى

تعجبني كثيرا روايات صديقي الشيخ أمبارك ولد بيروك. ويؤسفني بحق بأن إنتاج هذا الأديب الموريتاني الكبير ما يزال غير معروف تقريبا في الأوساط  الثقافية المحلية. ولم ينل بعدُ حقه من الإهتمام في المشهد الثقافي الوطني رغم ما حققه من نجاح على المستوى الدولي، ربما بسبب فارق اللغة. ولعل ما يميز أديبنا هو غزارة الإنتاج، فهو يظل الكاتب الوحيد حسب علمي، الذي نشر روايتن جديديتن هذه السنة هما: “صمت الآفاق”  «Le silence des horizons» الصادرة في شهر مارس الماضي عن دار elyzad في تونس؛ وقبلها بقليل، رواية “المنبوذون”  “Parias” الصادرة في فبراير 2021 عن دار Sabine Wespieser في باريس.

تقدم هاتان الروايتان الجديدتان كتلة سردية واحدة من الأدب الرفيع والخيال الخلّاق. وقد صيغتا –كالعادة- بأسلوب الكاتب الجذاب والأنيق. إنه نوع من السهل الممتنع الذي دأب عليه الروائي بيروك. وهو يمزج بشكل ساحر بين عفوية السرد وجزالة اللغة وسلاسة التعبير عن تداخل الأفكار وتشابك الأحداث. يكتب الروائي بيروك بتمكن نادر من ناصية اللغة الفرنسية. ويغلب على طريقته البارعة في الكتابة، استخدام مرهف وموفق للمفردات الرصينة التي لا تخلو من غريب  الفرنسية وقديمها المعتق الذي لم يعد يستعمل إلا في المعاجم والقواميس.

وكما في رواياته السابقة ابتداء من (ونسيّت السماء أن تُمطر، 2006 )،  و (إيگيوْ الأمير، 2013)، و (طبل الدموع، 2015)، ووصولا إلى رواية (أنا.. وحدي، 2018)، ظلّت روايات بيروك تشكل حكاية سرمدية عن عوالم موريتانيا المعاصرة وتحولاتها العسيرة. وإذا كان من المُسلّم به أن هذه الروايات تكشف الكثير من الأشياء في الحياة الاجتماعية والثقافية وتوثق الإتجاهات الرئيسية للتحولات المجتمعية والثقافية الكبرى في بلادنا، فإن لأعمال بيروك الأدبية أيضًا نطاقا أوسع يتجاوز حدود موريتانيا نحو تخليد عوالم الصحراء الكبرى وسردياتها المتميزة.. وبذلك، فإن روايات بيروك إنما تجسد تدويلًا أدبيا لقيم وتقاليد موريتانية معينة، تنتمي في العمق الثقافي إلى سجل الصحراء الكبرى وتقاليدها السردية الأسطورية المُبهرة .

في رأيي، تشكل الروايتان الجديدتان “Parias” و “Le silence des horizons” كتلة سردية واحدة. وهما تكملان بعضهما البعض بطريقة يمكن اعتبار كل منهما استمرارًا للأخرى. وفي حين أن رواية “صمت الآفاق”، فضلا عن الدراما النفسية والعائلية التي يعاني منها بطلها الرئيسي، تأخذنا إلى أعماق الصحراء، ذلك المكان المهيب الذي تحتفي الرواية بتصوير جماله الطبيعي الفريد الذي يتعرض بشكل متزايد لمختلف أنواع التهديدات بدء من التصحر وليس انتهاء بالعنف والتطرف؛ في حين أن رواية “المنبوذون” تشكل استعارة معبِّرة تحكي المصاعب والإضطرابات الخطيرة التي تعصف بنمط الحياة البدوية عند مواجهته للتداعيات غير المحسوبة لمسلسل التحضر القسري والعشوائي في عصر العولمة.

وفي كلا الروايتين، تظهر طريقة الحياة البدوية، على الرغم من بعض التحفظات لدى الكاتب، كعامل مطمئن ومألوف في مواجهة العدائية الصارخة التي مافتئت تفرزها البيئة الحضرية التي اجتاحتها- دون مقدمات- حضارة بدوية تتميز حياتها بالمشقة لكنها تبقى حياة تغمرها البساطة والبهجة.

في الأساس، تشترك روايتا بيروك الجديدتان في تشابه أرضية البناء الروائي حيث تركز كل منهما- وإن بطريقة مختلفة- على إعادة بناء مفردات الحياة وتداعياتها المأساوية المختلفة لثنائي الشخصيتين الرئيسيتين في كلا الروايتين وهما الأب وابنه في “المنبوذون” ثم الإبن وأبوه في “صمت الآفاق”. ورغم بعض التشابه فيما بين هذين الثنائي، فإن مسارات الأب والإبن تتناقض تماما في الشكل كما في الجوهر. وبينما نجد في رواية “صمت الآفاق” مونولوج الشاب المعذب بعقدة الذنب بسبب جريمة قتل “الشيخ” التي تم إلصاقها بوالده وبقيت تطارد الإبن، يشبه إلى حد كبير مرثية طويلة لرجل يحاول إسكات العفاريت التي تفجر كيانه الداخلي، فإن قصص الأب والإبن في رواية “المنبوذون” تشترك في إظهار كل العنف الذي يغلي في مجتمع يمر بمرحلة انتقالية، حيث يجري جزء كبير من وقائع الرواية في حي فقير هو “PK7”. وهي تسمية نكرة تجرد المكان أكثر من إنسانيته، في تلك الحياة الحضرية الهشة والعابرة، بما تعج به من عنف جسدي ورمزي مجنون، أصبح اليوم –بكل أسف- أكثر دراماتيكية، وكأنه يصرخ بوجوهنا في حياتنا اليومية.

في الرواية يحيل مفهوم “المنبوذون” إلى البدو الرحل وإلى النازحين من الأرياف وكل المهمشين في المدن. هؤلاء السكان هم على وشك الإنقراض، وهم يحاولون بأي ثمن الحفاظ على بقايا هويتهم. يصف بيروك مجتمعًا منقسمًا بين سكانه البدو وأهل الريف، وأولئك الذين يعيشون لعدة أجيال في المناطق الحضرية.

كما نجد أيضًا في كلا الروايتين ذلك العالم الخيالي لحكايات الجن، تلك المخلوقات الخارقة للطبيعة التي تميز الأساطير العربية والإسلامية، بينما يحاول الروائي أن يوظف ذلك التمييز الأسطوري القديم بين “الجن الطيب” و “الجن الشرير” ، في خلق مسارات للسرد ذكية وواعدة تنضح بثراء سردي ماتع، من خلال حكاية الشاب الجني الطيب “أوموم” في رحلته الإستكشافية بين الكواكب والمجرات الكونية التي كان بطل رواية “صمت الآفاق” يرتجلها لإمتاع أطفال السياح الأوروبيين أثناء رحلتهم لعبور الصحراء، لكي يخفف من حمى معاناته الداخلية الصامتة..

“لا تريد ولاته أن ترى أحداً ، فمئات الكيلومترات تفصلها عن الآخرين.. إنها تحب أن تكون بمفردها، وهي تزهو بصورتها وتعجب بنفسها في مرآتها الرملية، في الرسومات الجميلة على جدرانها، وفي زخارف كتبها القديمة. ثم أن ولاته ليست في الحقيقة من ذات طبيعة مدننا، فقد استلهمت الكثير من ثقافة وقيم الجميع لدرجة أنها لم تعد هي نفسها تعرف من هي.. لطالما كانت مدينة عالمة ومدينة مغناج للغاية.. وقد ظلت كذاك بالتأكيد بالنسبة لنا – نحن الآخرين ، أجلاف البدو الرحل..
إنها ولاته التي احتضنت جمال إمبراطورية مالي عندما كانت عظيمة، و أخذت كل شيء من المرابطين عندما كان لديهم إيمان عميق، وخدعت المغاربة ، وعرب معقل ، وغزاة الفلان المتعصبين، وأولاد أمبارك ، وقبيلة مشظوف، حيث اعتقدوا جميعًا -في وقت من الأوقات- بأنهم قد ظفروا بالمدينة الأسطورة.. ، لكن الأمر لم يكن كذلك.. لقد خدعتهم جميعًا، و انتزعت منهم النزر القليل لكنه الأساسي.. ثم عادت ولاته إلى ما كانت عليه دائمًا.. ولاتة المدينة ذات الدلال والغنج، التي تتعالى دوما على كل ما سواها”.

في هاتين الروايتين الجديدتين- كما في سابقاتها- ينقلنا الروائي الكبير بيروك بين عوالم مُبهرة ومُشوقة.. تذكرني سردياته بأساليب روائيين كبار من الشرق والغرب.. فكتابات بيروك تشبه إلى حد كبير روايات شيخنا ميلان كونديرا، خاصة عندما يتعمق في تحليل النفس البشرية، ويعيد تركيب آليات النوازع والدوافع والبواعث في السلوك البشري.. ويشبه أسلوب الروائي بيروك أيضا روايات إبراهيم الكوني في دهاليز فلسفته حول الصحراء كفضاء مكاني مخصوص.. وسردياته حول الطبائع والنفسية والعقلية المتميزة للإنسان الصحراوي.. كما أن الروائي بيروك يستحضر نفس الروائيين الأفارقة الكبار من أمثال صامبين عصمان، حيث لا يتبع السرد والتسلسل الزمني بالضرورة خطا مستقيما، بل نجد هناك تشابكًا في الأحداث وأقدار  ومصائر الشخصيات وأفعالها، يتجلى من خلال تعدد المحاور الزمنية ، والمساحات الجسدية والعقلية التي تفترق وتتقاطع ثم تتحد في بؤر  سردية مركزة..

أخيرا،  لابد أن أذكر بأن أسلوب الكتابة لدى الروائي بيروك يتثاقف كثيرا مع الروائي العبقري الكبير أمين معلوف، حيث يتقاسمان التمكن الحقيقي من ناصية اللغة الفرنسية، واستعذاب غريب مفرداتها وتعابيرها، وكذلك القدرة على تثوير التاريخ أدبيّا وفلسفيّا..

الروائي بيروك هو صاحب مشروع فكري/سردي طموح، وتستحق رواياته المطالعة والإحتفاء بها. فهي في النهاية تبقى أدبا إنسانيا رفيعا بقدر ما هي إنتاج أدبي موريتاني أثبت جدارته في المنافسة على المستوى الدولي، وقد آن له يأخذ مكانه اللائق في المشهد الثقافي الوطني..

الروائي بيروك شخصية مثقفة وعميقة، لكنه إنسان عفوي وظريف.. سألته الأسبوع الماضي – أثناء لقاء جمعنا معا- لماذا لا يترجم رواياته إلى العربية؟ فأجابني بكل عفوية “ما عندي ش لذاك من طول أخبار أهل العربية”.. ههههه..
من صفحة فيسبوك/
محمد السالك ولد إبراهيم

مقالات ذات صلة

إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: