في عام 2011، نزلت بيانات مكتب الإحصاء الوطني للتعداد السكاني في بريطانيا على الكثيرين كالصاعقة، فالإحصاء الذي وُصف آنذاك بأنه الأكثر دقة وشمولا في البلاد، أثبت تضاؤلا ملحوظا للحضور المسيحي في المملكة المتحدة، إذ أكدت الإحصاءات أن المسيحيين في إنجلترا وويلز يمثلون 59% فقط من السكان (ما عادل وقتها 33.2 مليون نسمة). هذا الأمر شكل صدمة، بالنظر إلى أن بريطانيا التي جعلت من الصليب المسيحي شعارًا لعلَمها، كان 75% من أطفالها قد تم تعميدهم في عام 1933.
رغم أن الأرقام أثارت الكثير من النقاشات، فإنها لم تكن تحمل مؤشرًا خطيرًا بالنسبة للمؤسسات المسيحية في إنجلترا، إذ كانت أغلبية السكان ما زالت تعتنق المسيحية رغم أن عددهم تقلص بمقدار 4 ملايين شخص مقارنة بعام 2000. وطمحت الكنائس في المملكة المتحدة إلى أن تُغيّر السنوات اللاحقة من طبيعة المشهد بحيث تستطيع البلاد أن تعود لتقف فوق البساط الذي سُحب من تحت أقدامها.
ويجتذبان المعتنقين.
مرت 10 سنوات ليظهر الإحصاء الجديد، ويؤكد أن الكنائس البريطانية لم تكسب التحدي الذي وضعته لنفسها. فمع حلول عام 2021 باتت نسبة من يعتبرون أنفسهم مسيحيين في إنجلترا وويلز تمثل أقل من نصف تعداد السكان، وبنسبة بلغت 46.2% فقط، وهو انخفاض كبير للغاية عما كان عليه الأمر في عام 2011.
وأصبح متوسط عمر المسيحيين في المملكة المتحدة مرتفعًا للغاية (51 عاما)، وهو أعلى متوسط عمر مسجل في تاريخ الإحصاء، وسط عزوف واضح من الشباب عن الدين، إذ كان من هم دون 40 عامًا أكثر ميلا إلى القول بأنهم غير مؤمنين بدين، كما انخفضت بشكل حادٍّ أعداد المصلين المنتظمين في الكنيسة خلال العقد الثاني من الألفية
وعلى الجانب الآخر، أعلن 64.2% من 1200 كاهن مسيحي استطلعت صحيفة “ذا تايمز” آنذاك رأيهم بشأن الإحصاء، أن بريطانيا لم تعد دولة يمكن وصفها بالمسيحية.
أثبتت الإحصاءات أن اللادينية والإسلام هما الفَرسان الأكثر ربحًا من ناحية جذب المعتنقين الجدد في المملكة المتحدة، فبينما انخفضت نسبة المسيحيين، ارتفعت نسبة اللادينيين من 25% عام 2011 إلى 37.2% من السكان بحلول عام 2021 (ما يعادل 22.2 مليون شخص)، وارتفع عدد المسلمين من نسبة 4.9% إلى 6.5%. ومن المهم هنا معرفة أن 26% فقط من البالغين في إنجلترا وجزيرة ويلز يشاركون في أنشطة دينية أكثر من مرة واحدة في العام، بينما يشارك 9% فقط منهم في أنشطة دينية أسبوعية.
جدير بالذكر أن اللادينية التي تتحدث عنها أرقام مكتب الإحصاء لا تعني بالضرروة الإلحاد، فقد تعني للبعض اللاأدرية، أو أنهم ما زالوا في طريق البحث عن الدين، أو ربما يؤمن بعضهم باعتقادات روحانية معينة لا يدرجونها في خانة الدين، أو يؤمنون بإله خالق لكنهم لم يقتنعوا بدين بعينه.
على جانب آخر، أظهرت أرقام مكتب الإحصاء الوطني آنذاك (والتي تُجرى كل عشر سنوات)، أن الإسلام كان الدينَ الأكثر انتشارًا في بريطانيا خلال العقد الثاني من الألفية الحالية، إذ ارتفع عدد المسلمين بزيادة مقدارها 1.2 مليون مسلم من عام 2011 إلى 2021، مشكلين 6.5% من تعداد السكان في البلاد (ما يعادل 3.9 ملايين نسمة).
وقد حققت الديانة الإسلامية هذه الزيادة في أعداد المعتنقين في مقابل انحسار المسيحية والزيادة الطفيفة في أعداد الهندوس من 1.5% من تعداد السكان في عام 2011 إلى 1.7% في عام 2021، بينما كانت الزيادة في نسبة اليهود أقل أيضًا من ذلك (من 256 ألف مواطن في 2011 إلى 271 ألفا في 2021). وكذلك ارتفع تعداد السيخ بنسبة ضئيلة للغاية من 0.8% إلى 0.9%، وربما يُعزى ذلك إلى الهجرة أكثر منها إلى التحول من بين أتباع الأديان الأخرى.
الاستبدال العظيم”
نظرية الاستبدال العظيم باختصار، نظرية يؤمن بها العديد من أطراف أقصى اليمين في أوروبا، وهي نظرية مؤامرة تفيد بأن تنامي الهجرات من البلدان الإسلامية ومن أصحاب البشرة السمراء ستجعل أغلبية السكان الأوروبيين المسيحيين البيض يتناقصون، حتى تصبح أوروبا يومًا ما قارة إسلامية يمثل فيها البيض المسيحيون أقلية.
ورغم أن نظرية الاستبدال العظيم لا تجد الكثير من الصدى في المملكة المتحدة مثل دول أخرى كألمانيا وفرنسا، بحكم أن النموذج البريطاني من الأساس يمثل تجربة أكثر تعايشًا مع الإسلام، فإن أرقام مكتب الإحصاء الوطني حفزت اليمين المتطرف في البلاد لاستخدام نظرية المؤامرة تلك لوصف تراجع المسيحية في البلاد حتى باتت تمثل أقل من نصف السكان، في وقت يتصاعد فيه الإسلام داخل المملكة بسرعة كبيرة.
بحسب تقرير أعدته “يورو نيوز”، فإن المعلقين السياسيين المتطرفين في بريطانيا استغلوا هذه الأرقام في خطابهم، وبحسب رئيس الاتصالات والتحرير في معهد الحوار الاستراتيجي، تيم سكويريل، فإن الإحصاء أدى وقت ظهوره إلى ارتفاع ملحوظ في بريطانيا من ناحية الحديث حول نظرية المؤامرة المعروفة باسم “الاستبدال العظيم”، والحديث حول “الإبادة الجماعية للمسيحيين البيض”.
وقد رأى سكويريل أنه على الرغم من أن قلة من السياسيين الكبار في بريطانيا قد يجرؤون على استخدام مثل هذه المصطلحات ونظريات المؤامرة، فإن نمو استخدام هذه المفاهيم في الجماعات الهامشية داخل المجتمع ينبغي أن يُنظر إليه بقلق.
جدير بالذكر هنا أن هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) وكلية كينغز في لندن، أجرتا استطلاعا في عام 2023 سألتا فيه المبحوثين عن نظرية الاستبدال العظيم، وقد وافق حوالي 10% من المستجوبين على أن تلك النظرية “حقيقية بالتأكيد” من وجهة نظرهم، في حين قال 20% من المستجوبين إن النظرية “ربما تكون صحيحة”.