1

تعقيبا على مقال “رب ضارة نافعةّ”، للكاتب والمفكر والباحث / العقيد البخاري محمد مؤمل

شارك المنشور:

تعقيبا على مقال “رب ضارة نافعةّ”، للكاتب والمفكر والباحث / العقيد البخاري محمد مؤمل
أقول إنه في زمن باتت البيئة فيه تئن تحت وطأة الاستهتار واللامبالاة، يخرج علينا صوت حكيم، متمرّسٌ في فهم الرموز والسياقات،
لا لينضمّ فقط إلى جوقة المنددين، بل ليرتقي بالحوار نحو مستوى أعلى من التأمل والمسؤولية. العقيد المتقاعد البخاري محمد مؤمل لا يكتفي بإدانة الفعل، بل ينقّب فيما وراءه من احتمالات دلالية وتربوية، مستخرجاً من “الجذع المقطوع” ما يشبه الدرس البيئي المُغلَّف بالرمزية، والمشحون برسائل ذات أبعاد حضارية وأخلاقية.
بين الغصن المقطوع وروح المواطنة البيئية
في بداية المقال، نجد الكاتب متأرجحًا بين الاستياء الشعبي المبرر من قطع شجرة، وما استتبع ذلك من غضب بيئي عام، وبين الإشادة برد الفعل الرسمي غير المسبوق من الدولة، ممثلةً في وزارة البيئة والتنمية المستدامة. هذا التوازن في الطرح يعكس نضجًا فكريًا يُميز بين الحدث في ظاهره، والفرص التي يتيحها في جوهره، لعل أبرزها تلك “النافعة” التي قد تخرج من رحم “الضارة”.
فبدل أن يبقى الفعل مادة لاحتقان عابر،
يرى الكاتب فيه مناسبة ثمينة لإشاعة الوعي البيئي، وتكريس مفاهيم “المواطنة البيئية” التي لا تزال في مراحلها الجنينية في مجتمعاتنا. بل إن الدولة وهي في الغالب تتأخر عن الركب بادرت هذه المرة بخطاب توعوي مبكر، حرصت فيه على الشفافية والتحقيق، ثم التثقيف والتوجيه، وهو ما يُحسب لها في ميزان الحوكمة الرشيدة.
الرمزية كأداة تعليمية
يلتقط الكاتب بعين الفاحص الذكي ما أراد منظمو المهرجان تسويغه من استخدام الجذع كرمز تراثي وإسلامي.
لكن هذا التبرير، وإن كان يحمل بعدًا ثقافيًا، لم يكن كافيًا – في نظره – لاستيفاء الغرض التربوي كاملاً.
وهنا تتجلى براعة الكاتب في قلب الطاولة: لماذا لا تُستثمر هذه الرمزية في الدعوة الصريحة لحماية البيئة؟ ولماذا لم تُقرن المنصة بلافتة تحمل وصية أبي بكر الصديق ” رضي الله عنه ” لجيشه بعدم قطع الشجر أو إحراقه؟ أليس ذلك أجدر بتحويل “الجذع” من مجرد عنصر ديكوري إلى منبر توعوي نابض بالحكمة والالتزام؟
هذه الإشارة الذكية تفضح بشكل ناعم الخلل في الخطاب البيئي المناسباتي، وتدعو إلى تأصيله في عمق الثقافة الدينية والتاريخية للمجتمع، بعيدًا عن الشعارات العابرة والمظاهر المهرجانية.
بيئةٌ تُثمر حتى في جذوعها الميتة
في مقطع بالغ الحسّ، يذهب الكاتب إلى ما يشبه التأمل الفلسفي: “من المعلوم اليوم أن الأشجار كلها مثمرة!”، في استعادة شعرية لمعنى “الثمر” بما هو أعمق من مجرد الغذاء، ليمتد إلى وظائف بيئية معقدة: تلطيف الجو، تنظيم المطر، مقاومة التغير المناخي، بل حتى في مماتها تُطلق مخلفاتها الغازات التي تؤثر في مصير الكوكب.
هنا يتحول المقال من رصد حادثة عابرة إلى تأصيل لرؤية بيئية متكاملة، تُعيد النظر في علاقتنا مع الطبيعة، لا بوصفها موردًا فقط، بل ككائن حيٍّ يجب أن نحميه، بل نحبه.
من الغصن إلى الفكرة
لا يسع القارئ عند الانتهاء من هذا المقال إلا أن يُدرك عمق الفكرة التي أراد العقيد المتقاعد البخاري محمد مؤمل إيصالها: أن الأحداث العابرة، حتى المؤسفة منها، يمكن أن تُصبح مادة للتربية ومنصة للتغيير، إن وُجدت الإرادة، وتوفرت الحكمة.
فالضارة التي أثارت الجدل، تحوّلت إلى نافعة حين فُتح فيها حوار عام، وسُلط الضوء على قضايا كانت في الظل، وتم استدعاء الذاكرة الدينية والثقافية في نقاش بيئي معاصر. وهذا بالضبط ما يجعل من المقال نموذجًا راقيًا في الأدب البيئي والاجتماعي: إعادة تأويل الأحداث الصغيرة لصناعة أفكار كبيرة.
تعقيب ختامي:
يا ليت كل جدلٍ في فضائنا العمومي يتحول إلى فرصة للحوار، ومناسبة للبناء لا للهدم. ويا ليت كل جذعٍ مقطوع يُعيد إلينا شجرةً من الوعي، وفرعًا من الحكمة، وجذورًا من المواطنة البيئية الحقة.
فما أحوجنا، في زمن الاضطراب البيئي إلى “عساكر الكلمة ” من أمثال البخاري محمد مؤمل، ممن يحملون على عاتقهم حماية الأرض، لا بالبندقية، بل بالفكرة، وبنبضٍ لا ينكسر.
الدركي المتقاعد محمد محمود أحمد صالح الحاج

شارك المنشور: