كثيرة هي الملفات التي جمعت بين الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين والزعيم الليبي الراحل معمّر القذافي، ولا سيما أن العلاقة بين الرجلين كانت بين شدّ وجذب كغيرها من علاقات زعماء المنطقة في الربع الأخير من القرن الـ20.
وقد بدأت الحكاية في أواخر ستينيات وسبعينيات القرن الماضي حين تزامن صعود الرجلين في وقت واحد، ودخولهما في صراع على النفوذ والكلمة في المنطقة.
من التأييد إلى التنافس
حين أزاح العقيد معمر القذافي نظام حكم محمد إدريس السنوسي في فجر الأول من سبتمبر/أيلول 1969، كانت بغداد تتابع المشهد من موقع المنتصر الثوري الآخر، وقد ترسخت فيها سلطة حزب البعث بعد انقلاب جرى بقيادة أحمد حسن البكر ونائبه وقريبه القوي صدام حسين في العام السابق على انقلاب القذافي.
وحينها لم تتردد العراق في إعلان الترحيب بـ”الثورة الليبية الفتية”، بل أرسلت وفدا رفيعا يقوده صدام نفسه إلى طرابلس الغرب، حاملا وعودا بالدعم المطلق سياسيا وعسكريا، فضلا عن المالي والسياسي لتثبيت أركان النظام الجديد الذي يبدو أنه كان يتفق فكريا مع النظام العراقي الجديد.
لكن هذا التقارب الذي بدا واعدا في بدايته، لم يكن سوى ومضة عابرة في سماء مشحونة بالتناقضات، ذلك أن القذافي سرعان ما تبنى رؤية الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، الرجل الذي اعتبره قائده الروحي ونموذج الزعامة في المنطقة.
كان ناصر وقتها على خلاف عميق مع البعثيين في العراق وسوريا على الرغم من تبني كلا الفريقين خطاب القومية العربية، وخصوصا صدام حسين، الذي وصفه عبد الناصر ذات مرة بـ”البلطجي”، كما يروي جواد هاشم وزير التخطيط العراقي السابق، في مذكراته “مذكرات وزير عراقي مع البكر وصدام”.
ومع رحيل عبد الناصر في سبتمبر/أيلول 1970 سرعان ما طفت الخلافات المكتومة بين الرجلين إلى السطح، لتتخذ منحى صداميا في الملفات الإقليمية.
ففي صيف عام 1971، اختار العراق دعم انقلاب شيوعي في السودان كان يستهدف إسقاط الرئيس جعفر النميري، وكما يذكر محمد عبد العزيز في كتابه “أسرار جهاز الأسرار: جهاز الأمن السوداني” فقد تحركت ليبيا بسرعة لإجهاض ذلك الانقلاب، بل ألقت القبض على اثنين من أبرز قادته وهما بابكر النور وفاروق عثمان، وسلّمتهما لاحقا للنميري، ليُنفَّذ فيهما حكم الإعدام.
كانت تلك اللحظة بمثابة إعلان قطيعة صامتة بين طرابلس وبغداد، ورسالة واضحة أن تحالفات الشعارات القومية باتت لا تصمد أمام صراع الأجندات والثأر التاريخي بين الناصرية والبعث في ملفات المنطقة المختلفة.
ولم تمضِ سوى أشهر على هذا التوتر حتى دخل المشهد العربي منعطفا جديدا، ففي عام 1972، طرح الرئيس المصري وقتها أنور السادات مشروعا طموحا لتشكيل اتحاد الجمهوريات العربية بين مصر وليبيا وسوريا في كيان وحدوي ثلاثي.
وقد بدا هذا المشروع جزءا من تطلعات وشعارات القذافي الناصرية، كما أيده حافظ الأسد بحذر كدأبه في مشاريع المنطقة، لكن البعث العراقي بقيادة صدام رأى فيه كارثة قومية، وربما إهانة شخصية له، ففي نظره كانت الخطوة محاولة “استسلامية” تُمهّد لتنازلات سياسية في القضية الفلسطينية، وفق ما يذكره الباحث عباس البخاتي في دراسته عن موقف دول المغرب العربي من الحرب العراقية-الإيرانية.
ولم تلبث الأوضاع أن اتخذت منحى آخر مع اندلاع حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، فأمام التحدي الوجودي الذي فرضته الحرب، التقت مصالح العرب، فتوحدوا خلف قرار تاريخي بوقف ضخ النفط إلى الدول الغربية المؤيدة لإسرائيل، كان ذلك اصطفافا استثنائيا فرضه واقع الحرب أكثر من كونه ثمرة مصالحة سياسية عميقة.