في أجواء مشحونة بالتوتر السياسي والأمني، شهدت إسرائيل يوم الأحد 23 مارس/ آذار 2025 مواجهة غير مسبوقة بين إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي، ورونين بار، رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك)، خلال اجتماع الكابينت. لم تكن هذه المواجهة مجرد صدام شخصي، بل تعبيرًا عن صراع أعمق بين اليمين المتطرف والمؤسسات الأمنية التي تحاول الحفاظ على استقلاليتها.
فيما وصلت المواجهة إلى اشتباك جسدي، ليصبح الحدث عنوانًا للأزمة السياسية الداخلية في إسرائيل. يأتي هذا الصراع في سياق تعثر مفاوضات صفقة الرهائن مع حماس، وتصاعد التوترات الإقليمية، مما يطرح تساؤلات حول تأثيره على استقرار الحكومة الإسرائيلية.
تفاصيل المواجهة: من الاتهامات إلى الاشتباك
تلقى بن غفير تقريرًا من مستشاريه يفيد بأن الشاباك، بقيادة رونين بار، يجري تحقيقًا سريًا ضده وضد الشرطة الإسرائيلية منذ شهور. التحقيق، حسب القناة 12 الإسرائيلية، يركز على “تغلغل منظمات إرهابية يهودية” في الشرطة، وتحديدًا من المتطرفين الكاهانيين الذين ينتمي بن غفير إلى تيارهم.
خلال اجتماع الكابينت يوم الأحد 23 مارس/ آذار 2025، هاجم بن غفير بار بشدة، واصفًا إياه بـ”المجرم”، واتهمه بمحاولة “تقويض الديمقراطية” وتنفيذ “انقلاب” ضد المسؤولين المنتخبين. تصاعدت الأمور إلى اشتباك جسدي بالأيدي، مما استدعى تدخل رئيس الموساد ورئيس أركان الجيش لفضّ النزاع.
رد بن غفير كان حادًا، حيث طالب بإقالة بار فورًا، واصفًا إياه بـ”خطر على الديمقراطية”، وطالب بتوجيه تهم جنائية ضده بتهمة محاولة الانقلاب. كما اتهم بار بجمع مواد ضد مفوض الشرطة داني ليفي، واضطهاد اليمينيين.
في المقابل، نفى الشاباك إجراء أي تحقيق ضد بن غفير، حسب إذاعة الجيش الإسرائيلي. مكتب نتنياهو أصدر بيانًا يوم الإثنين 24 مارس/ آذار 2025، نفى فيه علمه بأي تحقيق، واعتبر الادعاءات “كذبة مكشوفة” تهدف للإطاحة بحكومة اليمين، مؤكدًا أن أي تحقيق ضد القيادة السياسية “يقوض الديمقراطية”.
السياقان الشخصي والسياسي: جذور الصراع
بن غفير، زعيم حزب “عوتسما يهوديت”، يمثل التيار الكاهاني المتطرف المعروف بمواقفه العنصرية ضد الفلسطينيين. تاريخه مليء بالتحريض، وكان قد أُدين في الماضي بتهم تتعلق بدعم الإرهاب اليهودي. تولى منصب وزير الأمن القومي في حكومة نتنياهو، لكنه استقال في 19 يناير/ كانون الثاني 2025؛ احتجاجًا على اتفاق وقف إطلاق النار مع حماس، معتبرًا إياه “تخاذلًا”. عاد إلى الحكومة في 18 مارس/ آذار 2025 بعد استئناف الحرب على غزة، في خطوة اعتُبرت طوق نجاة لنتنياهو لضمان استقرار ائتلافه.
في المقابل رونين بار، رئيس الشاباك، يمثل المؤسسة الأمنية التي تحاول الحفاظ على استقلاليتها. الشاباك مسؤول عن الأمن الداخلي، وله تاريخ في مواجهة المتطرفين اليهود، خاصة الكاهانيين الذين ينتمي بن غفير إلى تيارهم. التحقيق السري ضد بن غفير والشرطة، إذا كان حقيقيًا، يعكس محاولة الشاباك للحد من نفوذ اليمين المتطرف داخل مؤسسات الدولة، خاصة الشرطة التي يسيطر عليها بن غفير.
ولا ننسى أن نتنياهو نفسه في صراع مع الشاباك منذ فترة، حيث أعلن في 17 مارس/ آذار 2025 عزمه إقالة بار، وهو قرار علقته المحكمة العليا مؤقتًا. نتنياهو يحتاج إلى دعم بن غفير لضمان استقرار ائتلافه، وكذلك يخشى من نفوذ الشاباك الذي قد يكشف عن فشله في إدارة الحرب، خاصة بعد هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
الدوافع والروايات
بن غفير يصور نفسه كضحية لمؤامرة من الشاباك، ويتهم بار بمحاولة “تقويض الديمقراطية”. هذه الرواية تهدف إلى تعزيز صورته كزعيم لليمين المتطرف، وكسب تعاطف قاعدته الشعبية. لكن بن غفير نفسه لا ينفي مواقفه العنصرية ومحاولاته للسيطرة على الشرطة وتسليح المستوطنين، مما يجعله هدفًا مشروعًا للتحقيق من جهاز مثل الشاباك.
في حين أن الشاباك نفى إجراء أي تحقيق ضد بن غفير، لكن هذا النفي قد يكون تكتيكيًا لتجنب التصعيد. إذا كان التحقيق حقيقيًا، فهو يعكس محاولة الشاباك -الذي يدير الدكتاتورية الكبرى ونظام الأبرتهايد في الضفة الغربية- حماية النظام الديمقراطي من نفوذ المتطرفين الكاهانيين. لكن الشاباك نفسه يواجه انتقادات بسبب فشله في التنبؤ بهجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، مما يضعف مصداقيته.
نتنياهو يحاول الظهور كمحايد، لكن موقفه يخدم مصلحته الشخصية. هو يحتاج بن غفير لضمان بقاء ائتلافه، خاصة بعد عودته للحكومة في 18 مارس/ آذار 2025. في الوقت نفسه، يسعى لتقويض الشاباك؛ لأنه يمثل تهديدًا لسلطته، خاصة مع التحقيقات حول فشل الحرب. هذا التوازن الدقيق قد ينقلب ضده إذا تصاعدت الأزمة.
الشاباك، كجهاز مسؤول عن الأمن الداخلي، يواجه أزمة مصداقية كبيرة. إذا كان التحقيق ضد بن غفير والشرطة حقيقيًا، فهذا يعني أن اليمين المتطرف قد اخترق مؤسسات الدولة، خاصة الشرطة التي يسيطر عليها بن غفير. هذا الاختراق قد يؤدي إلى تسليح المستوطنين بشكل أكبر، وتصعيد العنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، مما يهدد باندلاع انتفاضة ثالثة.
في المقابل، إذا نجح بن غفير في إضعاف الشاباك أو إقالة بار، فإن ذلك سيفتح الباب أمام سيطرة المتطرفين على الأجهزة الأمنية، مما يقلل من قدرتها على مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية. هذا الوضع يضع إسرائيل أمام مخاطر أمنية غير مسبوقة، خاصة مع استمرار الحرب على غزة. انعدام الثقة بين الحكومة والمؤسسات الأمنية قد يؤدي إلى فوضى داخلية، وربما يشجع جماعات متطرفة يهودية على تنفيذ عمليات ضد أهداف فلسطينية أو حتى إسرائيلية معارضة، مما يعزز حالة الفلتان الأمني.
ارتباط المواجهة بالسياق الأوسع
المواجهة بين بن غفير وبار تتزامن مع تعثر مفاوضات صفقة الرهائن مع حماس. الوفد الإسرائيلي غادر الدوحة في 16 مارس/ آذار 2025 بعد فشل المرحلة الثانية من الاتفاق، التي كانت تتطلب انسحابًا كاملًا وهدنة دائمة. بن غفير، بمواقفه المتشددة، يدفع نتنياهو لرفض التنازلات، مما يعزز استمرار الحرب. هذا الصراع الداخلي يعكس محاولة اليمين المتطرف لفرض أجندته على حساب أي تقدم دبلوماسي.
في المقابل الاحتجاجات ضد نتنياهو، التي بدأت بسبب التعديلات القضائية في 2023، تآكلت نسبيًا، لكن الأزمة مع الشاباك تعبث بفتيل إشعالها. الجمهور الإسرائيلي منقسم بين مؤيد للحرب وضد سياسات نتنياهو، وإذا رأى الشعب أن الحكومة تحاول تقويض المؤسسات الأمنية لصالح أجندة متطرفة، فقد يصعد الغضب الشعبي بقوة.
عودة بن غفير للحكومة في 18 مارس/ آذار 2025 كانت خطوة متوقعة لدعم نتنياهو، لكن المواجهة مع الشاباك تظهر أنه يسعى لفرض سيطرة أكبر. بن غفير يريد استغلال ضباب الحرب لتعزيز نفوذ اليمين المتطرف داخل الشرطة والحكومة، وهجومه على الشاباك يهدف لإضعاف أي مقاومة مؤسساتية لأجندته العنصرية.
الصراع بين بن غفير وبار يفاقم حالة القلق بين المواطنين الإسرائيليين، الذين يعيشون أصلًا تحت ضغط الحرب المستمرة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. هذا الصدام يعزز انعدام الثقة في المؤسسات، حيث يرى البعض أن الشاباك يتجاوز صلاحياته، بينما يخشى آخرون من نفوذ المتطرفين مثل بن غفير على الشرطة والحياة اليومية. التوترات الداخلية تزيد من الاستقطاب الاجتماعي، خاصة بين العلمانيين والمتدينين، مما يهدد التماسك الاجتماعي.
اقتصاديًا، الحرب كلفت إسرائيل أكثر من 200 مليار دولار حتى 2025، وهذا الصراع قد يؤخر أي حل دبلوماسي يخفف العبء عن المواطنين. نفسيًا، المواطنون يشعرون بالإحباط من استمرار الأزمات السياسية، مما قد يدفع لعودة الاحتجاجات إذا شعروا أن الحكومة تعرض الأمن القومي للخطر لصالح أجندات شخصية.