1

محكمة الحسابات: رخص تُمنح بلا دراسات بيئية، ووزارات تتغاضى عن “الكارثة”

شارك المنشور:

شهدت موريتانيا خلال العقدين الأخيرين ازدهارًا في أنشطة التعدين بشقيها الصناعي والتقليدي، مما جعل الرقابة البيئية على هذا القطاع مسألة حيوية. وفي تقريرها السنوي العام لسنتي 2022–2023 الصادر في يونيو 2025، سلطت محكمة الحسابات الموريتانية الضوء على سلسلة من الاختلالات البيئية الخطيرة المرتبطة بأنشطة التعدين واستخراج المعادن . يكشف التقرير عن أضرار بيئية جسيمة نتجت عن استخراج الذهب والمعادن الأخرى – بدءًا من تدهور السواحل بسبب استخراج الرمال الشاطئية، ومرورًا بتراكم النفايات الصلبة والسائلة دون معالجة، وتسرب المواد الكيميائية السامة، وصولًا إلى الاستخدام العشوائي لمادتَي الزئبق والسيانيد في عمليات التعدين التقليدي. كما يُبرز التقرير تقاعس بعض الجهات عن الالتزام بالضوابط البيئية وضعف إنفاذ العقوبات الردعية، رغم وجود مراسلات رسمية وتحذيرات من الجهات المختصة. في هذا التقرير الاستقصائي نستعرض أبرز ما جاء في تقرير محكمة الحسابات حول التعدين والبيئة، مع التركيز على المحاور التالية: الأضرار البيئية الناجمة، والجهات المسؤولة وتطبيقها للقوانين، والتحليل الاقتصادي للنتائج، وتوصيات المحكمة لمعالجة الاختلالات، بالإضافة إلى أمثلة دالة تشمل شركات مثل تازيازت وMCM وشركة معادن موريتانيا وغيرها. يكشف هذا الاستعراض الشامل أهمية التحرك العاجل لضمان العدالة البيئية وحماية المصلحة العامة في وجه الانتهاكات البيئية في قطاع التعدين.

أولًا: الأضرار البيئية الناجمة عن أنشطة التعدين

تآكل السواحل بسبب استخراج الرمال الشاطئية: يشير تقرير محكمة الحسابات إلى أن منح تراخيص لاستغلال ما يُعرف بــ«التربة السوداء» (وهي الرمال السوداء المختلطة بالمعادن الثقيلة على الشواطئ) تم دون مراعاة كافية للمخاطر البيئية المترتبة . ومن أبرز هذه المخاطر تدهور الحاجز الرملي الساحلي الذي يحمي الشواطئ من ضربات المد البحري . إذ أن إزالة الرمال الشاطئية تؤدي إلى إضعاف الحاجز الطبيعي أمام البحر، مما يجعل المناطق الساحلية أكثر عرضة لتوغل مياه البحر خصوصًا مع ارتفاع احتمالات المد البحري الناجمة عن التغيرات المناخية . ويحذر التقرير من أن استنزاف هذه الرمال لأغراض التعدين يشكل خطرًا بيئيًا جسيمًا على المدى البعيد. كذلك، يؤدي تشغيل آليات تجريف الرمال على الشواطئ إلى زيادة عكارة مياه البحر بشكل يضر بالكائنات البحرية الدقيقة (العوالق) التي تقع في قاعدة السلسلة الغذائية البحرية . وقد أكد وزير الصيد والاقتصاد البحري في مراسلة رسمية عام 2014 هذه النقطة، موضحًا أن تعكير المياه يخلّ بنمو العوالق ويتسبب في اضطراب السلسلة الغذائية للأسماك والقشريات والثدييات البحرية وغيرها . وبذلك فإن استخراج الرمال الساحلية لا يهدد التوازن البيئي فحسب، بل يضر أيضًا بالثروة السمكية الساحلية.

والتربة والهواء) ، فضلًا عن تعريض سكان المناطق المجاورة والعمال لمخاطر صحية جسيمة بسبب التعرض لهذه المواد السامة . وقد حذّرت منظمة الصحة العالمية في تقرير لها عام 2013 من الآثار الصحية الوخيمة للتعرض للزئبق في مواقع التعدين التقليدي، ومن بينها أضرار بالكلى واضطرابات في المناعة الذاتية لدى الإنسان . ويؤكد تقرير محكمة الحسابات هذه المخاطر مشيرًا إلى تسجيل حالات تلوث في المناطق الوسطى والجنوبية من البلاد ناتجة عن نشاط شركات المعالجة الصغيرة . وتتضاعف الخطورة عند قيام هذه الأنشطة في مناطق زراعية وبئية حساسة؛ حيث أن تسرب الزئبق أو السيانيد إلى التربة والمياه قد يلوث المزارع والآبار ويضر بصحة المجتمعات الريفية التي تعتمد عليها. ولهذا شددت وزارة البيئة في مراسلات حديثة عام 2023 على ضرورة منع ترخيص شركات المعالجة الكيميائية (الفئة F) في الولايات الزراعية والرعوية ذات الكثافة السكانية حرصًا على سلامة السكان والأراضي .

ثانيًا: الجهات المسؤولة والتزامها بالضوابط البيئية

وزارة البترول والمعادن والطاقة (الجهة الوصية): يكشف التقرير أن بعض الإدارات الحكومية تقاعست عن فرض احترام القوانين البيئية عند منح التراخيص للشركات المعدنية. فقد منحت وزارة البترول والمعادن عدة رخص استغلال خلال الفترة المشمولة بالتقرير دون الالتزام بإجراءات التقييم البيئي المنصوص عليها قانونًا . على سبيل المثال، منحَت الوزارة في عام 2016–2017 ثلاث رخص لاستخراج الذهب لشركتي SENI SA وTIREX SA قبل تقديم دراسات للأثر البيئي وقبل الحصول على رأي وزارة البيئة المختصة . وقد حاولت محكمة الحسابات تتبع وثائق هذه الرخص فلم تجد في الملفات ما يثبت وجود دراسة بيئية معتمدة لها، مما يشكّل مخالفة صريحة للمادة 76 من المرسوم 159-2008 التي توجب إرفاق دراسة الأثر البيئي في ملف أي رخصة استغلال معدنية . وتنص مواد قانونية أخرى (77 و79 من نفس المرسوم) على إلغاء أي طلب ترخيص غير مكتمل من حيث الوثائق ، ومع ذلك تم تمرير تلك التراخيص. وعند مساءلة الوزارة عن هذا الخرق، قدمت ردًا تضمّن وثيقة واحدة هي رسالة من وزير البيئة بتاريخ فبراير 2017 تفيد بالمصادقة على دراسة بيئية لمنجم تيجريت (تبع شركة TIREX) ، لكنها لم تقدم ما يثبت موافقة البيئة لشركة SENI عن نفس الفترة . بمعنى أن الوزارة منحت رخصة لشركة SENI بدون تأكيد نهائي من وزارة البيئة، في تجاوز للإجراءات التنظيمية. مثل هذه الحالات تدل على ضعف التنسيق بين الوزارتين وعلى تغليب الاعتبارات التجارية على الاشتراطات البيئية.

الحسابات عددًا من الشركات العاملة أو الحاصلة على رخص في القطاع، وكشف مدى التزام كل منها بالتعهدات البيئية المفروضة. فعلى سبيل المثال، شركة تازيازت موريتانيا المحدودة (TML) – وهي أكبر منتج للذهب في البلاد – تراكمت لديها نفايات صناعية على مدى سنوات دون خطة إدارة واضحة ، ولم تبادر الشركة إلى التخلص منها إلا بعد زيارات رقابية حديثة. وقد أفاد المدير العام للمعادن في رده للمحكمة بأن إدارته قامت أخيرًا في 2022 بإلزام تازيازت بوضع خطة عمل للتخلص من النفايات المتراكمة . لكن عند مراجعة المحكمة لهذه الخطة، وجدتها مجرد جدول نظري يفتقد لرأسية واضحة ولم يحمل توقيع أي جهة مسؤولة، والأهم أن خانة الإنجاز في الجدول كانت فارغة تمامًا – مما يعني أن الخطة لم تُترجم فعليًا على أرض الواقع. هذا يدل على مماطلة من طرف الشركة في تنفيذ التزاماتها البيئية رغم اعترافها الرسمي بالمشكلة. كذلك واجهت تازيازت سلسلة حوادث بيئية كما أسلفنا، ولم تتعرض لأي عقوبة أو غرامة من الجهات الوصية، الأمر الذي شجّع على تكرار الحوادث دون رادع . أما شركة مناجم النحاس الموريتانية (MCM) في أكجوجت، فقد أبرز التقرير أن لديها نقاط ضعف بيئية واضحة تمثلت في عدم معالجة مخلفات التعدين وقيامها بمبادرات غير مرخّصة لدفن النفايات الخطرة . ورغم أن إدارة المعادن وجّهت للشركة إنذارًا وطلبت منها اتخاذ تدابير عاجلة للتخلص من المخلفات ، إلا أن ذلك جاء متأخرًا بعد تراكم المشكلة لسنوات. ويبدو من مجمل التقرير أن الشركات الكبرى لم تكن تولي الاعتبار الكافي للتزاماتها البيئية إلا تحت الضغط، وأن الرقابة الحكومية كانت محدودة الفاعلية في فرض تلك الالتزامات خلال الفترة السابقة.

شارك المنشور: