1

كتبت الصغرى منت بدبدة ول محمد مؤمل في تأبين الفقيد يحظيه ول سدحمد

كُفّوا لسـانَ المراثـي إنها تَـرَفُ …. عن سائرِ المـوتِ هذا الموتُ يختَلِفُ !

هذا موتٌ- كما وُجِدَ في إعلام الناس… بما وقع للبرامكة ِ مع بني العباس- ” يموت ُ لموتهِ خلق ٌ كثير ” و المنسوب لابن حِمْيَر ْ الهمداني ، مجسدا ً عظمة الفقد و نقص الأنفس بقوله :

لعَمْرُكَ ما الرَّزِيَّة فَقْدُ مالٍ – ولا شاةٌ تَمُوتُ ولا بَعِيرُ
ولكنّ الرَّزِيَّة فَقْدُ فذ ٍّ- يمُوتُ لِمَوْتِهِ خَلْقٌ كَثِيرُ

إنهُ ؛ سمي ُّ يحظيه حظاه ُ الله ُ… ربنا من كل سوء ٍ وقاهُ

من زمننا هذا هو ” الّذي تَعرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَهُ وَالبَيْتُ يعْرِفُهُ وَالحِلُّ و الحَرَمُ ” !

هذا، ما هو الا سليل ُ مسكةَ الذي تجلي فيه وصفهُ ؛ “فما مسكة ٌ الا جنة ٌ دنيوية ٌ به أضحك َ الله ُ الورى و به أبكى ” !

هذا “بابا” ، أظنه ُ الوحيد غير أبي -حفظه ُ الله و أطال عمره – الذي استطاع لساني أن يتحدَ مع شفتاي لِيناديه ُ ببابا ” فلم يكن الأمر بالسهل حين فعلت الا أنه استحق اللقب .. هذا سعادة السفير ، دكتور التربية و علم النفس، الاستاذ الجامعي، الأمين العام ، تعددت الالقاب ْ لكثرة و تعدد ِ الأدوار الملعوبة في مسيرة ِ حياة ٍ لم تكن بالبسيطة و لا بالرتيبة .. كان من الآباء المؤسسين الواضعين لحجر ِ أساسِ ما كان يومئذٍ يُؤمل ُ بأن يصير “دولة” و في عالم آخر موازٍ كان من الآباء المجاهدين في صناعة لب الدولة بتطويره المواطن الانسان على مستوى اصغر لبنةٍ من لبنات المجتمع، أسرته الكريمة ..

ديكارت عصره و عمرو بن العاص قومه ، فلسفة ً و رأيا ً و حزما ً و رجاحة ً و لساناً، دكتور علم النفس الخبير به و كلٌ ميسر ٌ لما خُلِقَ له، عقل اهل “احمد خرشي ” الموروث جينيا ً بنكهة “مَيْنِيَّة” شاءت له الأقدار أن يُؤَطّرَ أكاديميًا و يتعرض لتلاقحِ حضاراتٍ عربية ٍ و غربية ٍ شتّى فكان الدكتور يحظيه ول سيد احمد .. سعادة السفير و المربي الفاضل، الكريم المضياف صاحب البيت العامر مأوى الغريب و ابن السبيل …السياسي اللامع و الأستاذ الجامعي و الأكاديمي المتميز ..عاصر الكثير من الاحداث التي تستحق أن تُسجل و تخلد للذكرى الا أن أزهد الناس في العالم أهله .. يراودني الندم حقا ً أن لم اغتنم كثيرا ً من فرص مجالسته و الغوص في بحور علمه و معرفته او حتى التسلي بجميل و غزير ما غنِيَتْ به مذكراته …

ذاع صيت ُ الفتى من صباه فلقد مكنته ُ إرادته و نبوغه من شق طريق عصاميٍّ مضيء ٍ مزدهر ليتقلد مناصب عدة في سنٍ يافعة بين أروقة الصحافة و ممرات الإدارة و من ثم الى صالات الدبلوماسية في زمن البؤس و الجفاف و حال “اهل لخيام ” آنذاك لا يعلمه ُ سوى السميع العليم … و لأن “بأضدادها تُعرف ُ الأشياء” كان ليحظيه شأناً خاصاً في قومه بل و في موطنه عموماً ، فصاحب هذا الرصيد المعرفي الذي استطاع ان يصنع بمجهوداته الذاتية هذا المجد و هذه المكانة في رقعة ٍ جغرافية من الأرض ترتفع فيها معدلات الجهل و الفقر لا يمكن إلا أن يضم اسمه الى لائحة الشخصيات الوطنية المرموقة ..

بداية رحلته الدبلوماسية -التي يبدو أنه اكتسبها خُلُقاً بعد ان اتخذها مهنة ً – كانت من أبوظبي مع الشيخ زايد آل نهيان مروراً بطرابلس حيث معمر القذافي و من ثم شرقي اوروبا الى بوخارست حيث الدكتاتور تشاوسيسكو وصولاً الى عاصمة بلاد الرافدين بغداد في ضيافة القائد صدام حسين، قرابة عقدين من الزمن قضاهما سعادة السفير يحظيه حاملاً لواء الدبلوماسية ممثلا ً لجمهوريته الاسلامية راسماً خطط تعاونها مع كل هذه الدول بأبهى صور التفاني و الاستقامة و نظافة اليد، ، غير متناسين َ احتوائه لجاليات تلك المحطات من الغرباء من أبناء وطنه ..

حقا ً هذا “الموت ُ يختلفُ ” كما أسلفنا ، الا إن بعض خصال الفقيد في السلالة الجينية لا تشبه ُ شيئا كشبهها بخصال جد الجد – و من ذلك ما جادت به قريحة الولي الهمام الشيخ محمد المامي برثاءٍ له شعراً في أبيات ٍ قد تداوي شيئاً من جرح الفاقد المكلوم و يشعر قارئها وكأنما قُصد بها رثاء حفيد الحفيد لما فيها من المعنى :

عُتِقَتْ من نوالكَ الأبرارُ فاغفرن للعتيقِ يا غفارُ
واسقه بالرحيق يا بر في الجنـ ـنات تجري من تحتها الأنهارُ
جنة ٌ عرضها السماوات والأر ض أعدت للمتقين الخيارُ
كلما تشتهيهُ الأنفس فيها وتلذ العيون والأبصارُ
* يرحم الله خازنا ً للسان الر رطب من ذكره الخطيب المثارُ

يرحم الله خازنا ً ذاكرا ً بارا ً بوالدته التي أشهدت القاصي و الداني على حلاوة بروره بها في حضوره و غيابه و في حله ِ و ترحالِهْ .. والدته السيدة البرجوازية العظيمة الزعيمة سليلة المشيخات و التي تتواتر الأحاديث أن نيل رضاها لم يكن بالأمر السهل ..تقول لجلاسها ؛ معبرة ً عن سعادتها به : “يحظيه ظوگنا طعمة الدنيا ” .. تتوسل للمولى عز و جل و تردد دائما ً : ” بركة برورو يسر أمورو “.. و لما كان يحظيه ابنا ً بارا ً بأمه وفقه ُ الله لأن يكون صهرا ً بارا ً بالوالدة ميمونة تغمدهما الله بنعيمه ..

* كل حلمٍ بعد العتيق ِ سفاه ٌ والصوافي من بعده أكدار ُ.

كل حياة ٍ بعده تذكر ُ بفقده ِ و كل حلاوة يبطل مفعولها مرارا ً طعم فراقه فالصوافي من بعده أكدار ُ .. هو الغائبُ الحاضر الموجِع للقلب من حيث لا يدري بتركه في الزوايا بقايا من بقاياهُ .. ” ولكنّ الرَّزِيَّة فَقْدُ فذ ٍّ- يمُوتُ لِمَوْتِهِ خَلْقٌ كَثِير”

* كان فينا عرابةٌ فتعزيـ ـنا كما قد تعزت الأنصارُ
وأبى المجد أن يُعَزى كأن لم تنكإ المجد قبله الأوتارُ

كان فينا وجيها ً ، خطيباً مفوها ً ، أديباً فِطَحْلاً ، عالما ً جهبذا ً ، سياسياً دبلوماسيا ً عُرِفَ لا بشيء ٍ سوى الذكاء و الثقافة و المعرفة و الحصافة ، ناهيكَ عن التواضع بالسجية الذي و لربما هو من شدة إلمامه ِ و خبرته بعلم النفس و التركيبة البشرية المعقدة للناس عموما ً و لـ بعض ٍ من « les phénomènes« خصوصا ً كما كان يسميهم .. ذوو العقد النفسية من الشخصيات
السامة و النرجسية و ما أكثرهم !

هو لَعمري سيبويه إمام النحاة الشيرازي و الشاعر موليير الباريسي دُمِجوا في شخصٍ واحد متجاهلين ثلاثتهم عامل الزمن بينهم .. تسألُ نفسك َ دائما ً في حضرته حين استطراده بالخطاب عربيا ً و أعجمي ّ ِ كيف له بجمع هذا الاتقان تبارك الخلاق ؟! كيف لعقل ٍ بشري أن يُلم َّ بلغة بني كنعان السّاميّة الى درجة تساويها بإلمامهِ بأحد أصعب فروع لغات الامبراطورية الرومانية ؟!

لا يمكن لك في حضرته الا ان تخرج بفائدة ٍ من لاتينية فرع فرنسا تارة ً او تارةً أخرى من الاعراب و النحو و الصرف كحديثه مثلا ً عن “حب السلامة عن الكسل يثني بصاحبه “موضوع البكالوريا الذي انطلقت معه شرارة البداية .. بداية حقبة من التميز الاكاديمي مرورا ً بشهادة الماجستير في الأدب استحقها بدرجة مشرفة من ارض القيروان و حضارة عِلّيسة و حنبعل حتى تمكن بعد ذلك بسنوات من إنجاز أطروحة دكتوراه في بوخارست الرومانية إبان َ زمنٍ كان لهكذا شهادات معنى ً و قيمة تعكس بعضا ً من ما يحمل أصحابها من علم نفيس و نهم ٍ لتحصيل العلم و المعرفة قبل زمن المظاهر الخداعة هذا و الذي يغزوه هذا الفوج من المُتَدَكْتِرين أصحاب أطروحات “النسخ و اللصق “، “درهمك
يرحمك ” و داء الركض وراء البرستيج ..

ما كان هذا سوى غيضٍ من فيض من مناقب “عرابة ” فتعزينا و شهد القاصي و الداني فهذا هنا يذكر عطايا جمة و ذاك يذكر توظيفا ً و آخر لديه قصة مع المرحوم في تفريج كربة .. هنا رفقاء الدرب و اصدقاء الصغر من “نجع السباع ” و أولئك طلاب من خريجي شبه جزيرة البلقان يصطفون يتبعهم طلاب بلاد سومر و غير بعيد قضاة إمارة أبي ظبي ٍ او ذووهم… رغم اختلاف أصولهم، ظروفهم و أقدارهم لا شيء هنا يجمعهم سوى الامتنان بمعروف الفقيد ..

* أين من يلبس الرجال على البغـ ض وأين الإيراد والإصدارُ

” من يلبس ُ الرجال على البغض ِ”، من تعرض لمواقف لا يُحسد عليها خلاصتها كانت على الدوام ” و إن انت أكرمت َ اللئيم َ تَمردا ” و مع ذلك و برغم التمرد و برغم مقابلة الاحسان بالإساءة عاش متمالكاً لأعصابه و انفعالاته و برغم العواصف العاتية .. فسبحان من ألهمه ُ رُشده و حلاهُ بدبلوماسيته ِ و وقاره ليعيش متقياً و متفاديا ً لكثير ٍ من الصدامات رغم الألغام المجتمعية و شرارات العداوة المتطايرةِ هنا و هناك

* فليسعنا لو أمكن النفس تسليـ ـماً لما قد جرت به الأقدار ُ

و لَمّا كان لفقدان الآباء “العاديين” أثراً بالغا ً في النفس تدمع له العيون و تحزن له القلوب، لم و لن يكون لرحيل أبٍ كيحظيه أثراً عاديا ً ستظل ذكراه ُ خالدة في شغاف القلب و مراكز الذاكرة و في أحاديثنا اليومية الا أن من لطف الله ِ بنا الذي يعلم أن ” الموت لا يوجع ُ الموتى و لكنه يوجعُ الأحياء” أن لم يأذن له بموت الفجأة حتى انتقل الى هذا المصير المحتوم مرورا عابرا ً بمنحنى ضعف الشيخوخة و يكأنه ُ يقول ” اليوم أكملت ُ لكم ما علي ّ من مسيرتي في هذه الحياة مؤديا ً رسالتي، معقبا ً بعدي بنين و بنات يُشار ُ إليهم بالبنان .. و ها قد حان الأوان لاسترداد الوديعة .. ً” فإنا لله و إنا إليه ِ راجعون .. و حتى لما شاءت الاقدار بالاسترداد و فارق الدنيا و هو حيّ إثر وعكة ٍ صحية ٍ مفاجئةٍ ألمت به كان الوداع حينها قاسياً و لا يزال بعد أن ووري َ الثرى في مثواه الأخير .. فاللهم لطفك َ بقلوب يحيى فيها الفقيد ما حييَ أصحابها ..

%d مدونون معجبون بهذه: