أخبار العالمثقافة

الإبداع بالعربية في السنغال.. إرث قاوم المستعمر وإبداع يزين المشهد

أصوات شعرية قوية، وروائيون يسردون حكايا الغرب الأفريقي بلغة عربية راقية. كل ذلك لفت الأنظار للغة العربية وأوضاعها في قطر يظنه البعض بعيدا عنها، وهو فيها راسخ، الجزيرة نت وقفت على أوضاع لغة الضاد في السنغال (بلاد التيرانغا).

العربية والإسلام
تحظى العربية بمكانة كبيرة عند المسلمين في شتى بقاع الأرض لارتباطها العظيم بالإسلام، ولعل ذلك من أسباب دعمها، وتعهدها عند الكثيرين. ومن أسباب حربها كذلك.

في السنغال -كما هو حال الغرب الأفريقي عموما- ترتبط العربية والدين الإسلامي في تاريخ دخولهما، وانتشارهما بعد ذلك، ويقول الباحث السنغالي الدكتور محمد نيانغ الأستاذ بجامعة أفريقيا العالمية بالخرطوم إن المؤرخين لم يتفقوا في تحديد تاريخ دخول العربية السنغال، غير أنهم رجحوا أن يكون ذلك في القرن السابع الميلادي.

ولا يتوقف الخلاف بين المؤرخين في تاريخ الدخول بل يمتد لمسألة السبق: هل سبقت العربية الإسلام، أم العكس؟ ويرى الدكتور نيانغ -في حديثه للجزيرة نت- أن “تاريخ دخول العربية إلى السنغال يجب أن يدرس دراسة مستقلة، وأغلب الظن أن العربية وصلت إلى المنطقة قبل وصول الإسلام بزمان بعيد، وذلك للصلات العربية الأفريقية التي كانت قائمة”. وكانت الصلات السنغالية بعرب أفريقيا وحواضرها كالقاهرة والقيروان وتلمسان وعموم موريتانيا بشكل أكبر سببا في بلوغ العربية السنغال، ومازالت العربية تستفيد من هذه الأواصر.

أما الباحث السنغالي المتخصص في اللغة العربية مصطفى جوم، فيصل في شأن انتشار العربية لرأي اعتمد فيه على مصادر عدة، إلى أن حركة المرابطين (1040- 1147) ساهمت بشكل فعال في انتشار الإسلام والعربية. ويضيف في دراسته المنشورة عام 2019 أن ملك السنغال “بوارجابي” (توفي عام 1040) أسلم وشارك في نشر الإسلام والعربية بين رعاياه.

صنائع الاستعمار
ظلت العربية وفية لبداياتها في ارتباطها بالدين الإسلامي، وإذا علمنا أن 95% من أهل السنغال على الديانة الإسلامية أدركنا أهمية هذا الدين في انتشار وبقاء العربية، وفي تبني السنغاليين لها. وتدين العربية في انتشارها في بلاد السنغال لعدد كبير من الشيوخ الذين اهتموا بتعليم القرآن، والعربية بطبيعة الحال.

يقول رئيس النادي الأدبي بالسنغال فاضل غاي للجزيرة نت “أجدادنا كانوا يستخدمون العربية في مراسلاتهم الإدارية قبل مجيء الاحتلال الفرنسي الذي حاول طمس العربية بمحاربة مدرسيها، وحرق المدارس القرآنية، لكن الشعب ظل متمسكا بلغة القرآن، رغم فرض المستعمر الفرنسية لغة رسمية”.

رئيس النادي الأدبي بالسنغال فاضل غاي يرى أن العربية تتعرض للتهميش في كثير من الأحيان (الجزيرة)
ورغم المحاربة الممنهجة للعربية من قبل المحتل، ظل التعامل بالعربية ضروريا عند الفرنسيين أنفسهم، وهذا ما أشار إليه الدكتور نيانغ بقوله “الإدارات الاستعمارية اضطرت إلى استقطاب كتبة من الموريتانيين أو السنغاليين المستعربين، ليكونوا همزة وصل بينها وبين المواطنين”.

ويضيف نيانغ “نفذ الاستعمار إلى شرايين الدولة، فحاول استئصال العربية من جذورها. وقد نجح نسبيا في ذلك، لكنها ظلت لغة مقدسة، ولها مكانتها في قلوب السنغاليين”.

وكانت حرب الفرنسيين للعربية جزءا من حربهم على الإسلام وشيوخه الذين يحظون بمحبة الناس واجتماعهم من حولهم، ومحاولة لتغيير ثقافي في السنغال. وحتى بعد ذهاب المستعمر لم يكن من السهولة العودة للوضع السابق، كما أن الحكومات السنغالية لم تكن العلاقات بينها وبين العربية جيدة بحسب آراء مهتمين، بسبب حرص الفرنسيين على دعم أصحاب التوجهات الفرنكوفونية.

لكن الأمر تغير مع شيء من التحفظ بحسب إفادة فاضل غاي الذي يرى أن النظرة للعربية تغيرت في عهد كل من الرئيس السابق عبد الله واد، والحالي ماكي سال، لكنه يؤكد أن العربية تتعرض للتهميش في كثير من الأحيان.

تعليم العربية
في الكتاتيب والمحاضر كانت بدايات تعليم العربية في السنغال، وعلى ضوء نيران تلكم المحاضر مازال السنغاليون يتعلمون العربية، مع كثير من التغيير مع مرور الزمن.

أهم مراحل التغيير كان مع دخول الفرنسيين للسنغال، فكان أن أنشؤوا المدارس الحديثة أولها عام 1850 بمدينة سانت لويس، وانتشرت تباعا. لكن الأهالي ظلوا يرسلون أبناءهم لمدارسهم الإسلامية، والتي عملت الحكومة على محاربتها فسنت قانونا عام 1896 يمنع فتح المدراس دون ترخيص، وفرضت عقوبات مالية وأحكاما بالسجن للمخالفين، كما وضعت شروطا صعبة لإصدار التراخيص. وتم إعلاء المدارس الفرنسية فكانت شهادتها ضرورية لشغل الوظائف، وما إلى ذلك من نهج تكرر في أغلب المستعمرات.

في غضون ذلك، ظل تعليم العربية حاضرا في المعاهد التقليدية، كما سافر بعض السنغاليين للدول العربية لتعلمها، ولم تتغير أوضاع تعليم العربية كثيرا بعد الاستقلال إلا بعد برنامج الإصلاح التعليمي الذي بدأ في السبعينيات.

ويرسم فاضل غاي المشهد الحالي للعربية في السنغال قائلا إنها تدرس في المدارس الحكومية من المرحلة الابتدائية وحتى الجامعة، وهناك قسم للعربية في جامعة شيخ أنت جوب بدكار، وفي معهد الإدارة، إلى جانب المدارس والمعاهد العربية التابعة للجمعيات الإسلامية.

إبداع لافت
وشهدت السنوات الماضية تألقا سنغاليا في الإبداع بالعربية، شعرا ونثرا تجلى في حصول مبدعين على عدد من الجوائز ومشاركاتهم في مهرجانات عربية. ويرى رئيس النادي الأدبي أن العربية في السنغال تعيش طفرة غير مسبوقة، واصفا راهن الأدب المكتوب بالعربية بالعصر الذهبي. وأن حاضر الإبداع العربي السنغالي وريث لتاريخ قديم من الكتابة العربية السنغالية.

وأوضح نيانغ طبيعة هذا الإرث بقوله “حفظت لنا ذاكرة التاريخ كتابات السنغاليين، وإبداعهم الشعري منذ وصول الإسلام إليهم، يضاف إليه منتوجات علمية مكتوبة بالعربية من: فقه، تفسير، أصول شريعة، عقيدة، وما إلى ذلك”. ويرى أن حاضر الكتابة امتداد لذلك العطاء، يضاف إليه طرق أبواب إبداعية أخرى.

الباحث محمد نيانغ يرى أن الاستعمار حاول استئصال جذور العربية من السنغال (الجزيرة)
من جانبه، تحدث الروائي السنغالي أبوبكر أنجاي -في إفادته للجزيرة نت- عن المشهد الأدبي، وقال “ثورة أدبية حافظت على الإرث العتيق وطورت ونوعت وحدثت فيه، وأتت بتنوع ملحوظ بإضافة عنصري القصة والرواية في الإبداعات السنغالية الأدبية بالعربية”.

لكن الناظر للخارطة الأدبية السنغالية يلحظ فروقات من حيث الذيوع والانتشار بين الأجناس الأدبية المختلفة، إذ يذهب الشعر بعيدا مقارنة بالسرد، وهذا ما برره الروائي أنجاي بقدم وأسبقية الشعر العربي في السنغال، بخلاف الفنون السردية من قصة ورواية.

ورغم هذه الثورة الأدبية فما زالت هناك فجوة كمية بين المنتج الإبداعي السنغالي العربي مقارنة بالفرنسي، بحسب الأديب والباحث السنغالي عمر أبو ورش.

حضور إعلامي
إعلاميا بدأت مساحة العربية في التمدد باختلاف أشكال ووسائل الإعلام، مما ساعد في انتشار اللغة وحضورها في يوميات السنغاليين وحياتهم.

ويرى أنجاي أن الإعلام السنغالي بالعربية نجح في فرض وجوده بشكل غير مسبوق، وأصبح يملك شريحة كبيرة من المتابعين. وأضاف “باتت في الساحة السنغالية صحف ومواقع إعلامية سنغالية ناطقة بالعربية، مثل ريفي دكار، وأخبار السنغال، ووكالة الأنباء السنغالية ودكار نيوز وغيرها”.

وعلى الرغم من عدم وجود فضائية أو محطة راديو كاملة البث بالعربية لكن بعض القنوات والمحطات تخصص فترات وبرامج بالعربية.

وتبقى المساحة الأكبر للإعلام العربي في السنغال للإعلام الإلكتروني، وهذا ما أكدته إفادة الروائي والباحث عمر أبو ورش الذي يرى أن حضور العربية باهت في الإعلام المرئي والمسموع.

لكن، وإجمالا، يرى مراقبون أن مساحات العربية بدأت تتسع وكذلك يزداد متابعوها، كما أن هناك حضورا لما هو أدبي في تلك المساحات، مع اكتساب جمهور جديد للمواقع والصفحات السنغالية، بعضه من الخارج.

الأمس أم الغد؟
كانت العربية قبل دخول الفرنسيين في وضعية متقدمة، لغة للتدوين والكتابة، ويقبل عليها أهل السنغال محبة فيها وفي دينهم، وانحسرت بفعل الاستعمار لمصلحة لغة المستعمر، لكنها بدأت استعادة ما فقدت حتى يكون غدها أفضل من أمسها، لكنه وفي سبيل ذلك تحتاج اجتياز الكثير من العوائق.

وينظر أبو ورش إلى مستقبل العربية بتفاؤل مسبب، إذ يقول “يمكن القول إن مستقبل العربية في التعليم السنغالي يبشر بالخير، فالتعليم العربي بشقيه الحكومي والخاص يزداد ازدهارا، والمثقفون بالعربية يهتمون بالتأليف”.

ويستدرك “لا يعني ذلك أنه ليس ثمة تحديات تحول دون ازدهار العربية، لكن علاقة الشعب السنغالي بالعربية تتسم بعمق بالغ يعينها على تجاوز التحديات”.

وليس التعليم وحده سبب التفاؤل، إذ يرى الدكتور نيانغ أن “اليقظة العلمية والأدبية -التي شهدتها بلاد السنغال من كتاب وشعراء يأنفون أن يكتبوا إلا بالعربية شعرا ونثرا- ضامن آخر لمستقبلها المشرق في البلاد، وتمكينها في نفس الإنسان السنغالي المسكون بحب العربية”.

وتمنى نيانغ اهتماما أكبر من الأقطار العربية في نشر اللغة، أما أبو ورش فرغم تفاؤله فإن له بعض الملاحظات التي تعيق تمدد العربية، من بينها ميل بعض المستعربين السنغاليين إلى استعمال العربية وسيلة لفهم الدين فقط، وعدم استعمالها وسيلة للفن والأدب، كما عاب أبو ورش قلة الأنشطة الأدبية والمسابقات الأدبية الوطنية التي تشجع الناشئين على الكتابة.

المصدر : الجزيرة

الوسوم
إغلاق
%d مدونون معجبون بهذه: